الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فروى الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار : النجاشي ، أمنا على ديننا ، وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا على أن يبعثوا إلى النجاشي هدايا مما يستظرف ، ومن متاع مكة ، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا [ ص: 258 ] له ، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ، وعمرو بن العاص ، وأمروهما أمرهم ، وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم ، ثم قدما إلى النجاشي هداياه ، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم . قالت : فخرجا ، فقدما على النجاشي ، ونحن عنده بخير دار ، وعند خير جار ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته ، قبل أن يكلما النجاشي ، ثم قالا إلى كل بطريق : إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم لتردهم إليهم ، فإذا كلمنا المليك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ، ولا يكلمهم ، فإن قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم ، فقالوا : نعم . ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ، ثم كلماه فقالوا له : أيها الملك ، إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم وعاينوهم فيه ، قالت : ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم ، فقالت بطارقته حوله : صدقوا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا [ ص: 259 ] عليهم ، فأسلمهم إليهما ليردوهم إلى بلادهم وقومهم ، قالت : فغضب النجاشي ، ثم قال : والله لا أسلمهم إليهما ، ولا أكاد أن أسلم أقواما جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي ، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم ، فإن كانا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني . قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ، ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟ قالوا : نقول ، والله ، ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن ، فلما جاءوه - وقد دعا النجاشي أساقفته ، فنشروا مصاحفهم حوله - سألهم فقال : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ، ولا دين أحد من هذه الأمم ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية