ومن منازل " إياك نعبد وإياك نستعين " . منزلة التبتل
قال الله تعالى : ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ) .
والتبتل الانقطاع . وهو تفعل من البتل وهو القطع . وسميت مريم عليها السلام البتول لانقطاعها عن الأزواج ، وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها . ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا . وقطعت منهن . ومصدر بتل تبتلا كالتعلم والتفهم ، ولكن جاء على التفعيل - مصدر تفعل - لسر لطيف . فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة . فأتى بالفعل الدال على أحدهما ، وبالمصدر [ ص: 31 ] الدال على الآخر . فكأنه قيل : بتل نفسك إلى الله تبتيلا ، وتبتل إليه تبتلا . ففهم المعنيان من الفعل ومصدره . وهذا كثير في القرآن . وهو من أحسن الاختصار والإيجاز .
قال صاحب " المنازل " :
التبتل الانقطاع إلى الله بالكلية . وقوله عز وجل : ( له دعوة الحق ) أي التجريد المحض .
ومراده بالتجريد المحض التبتل عن ملاحظة الأعواض . بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة . فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر ، بخلاف العبد . فإنه يخدم بمقتضى عبوديته ، لا للأجرة . فهو لا ينصرف عن باب سيده إلا إذا كان آبقا . والآبق قد خرج من شرف العبودية . ولم يحصل له إطلاق الحرية . فصار بذلك مركوسا عند سيده وعند عبيده . وغاية شرف النفس دخولها تحت رق العبودية طوعا واختيارا ومحبة ، لا كرها وقهرا . كما قيل :
شرف النفوس دخولها في رقهم والعبد يحوي الفخر بالتمليك
والذي حسن استشهاده بقوله : ( له دعوة الحق ) في هذا الموضع : إرادة هذا المعنى . وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته . وإن لم يوجب لداعيه بها ثوابا . فإنه يستحقها لذاته . فهو أهل أن يعبد وحده ، ويدعى وحده ، ويقصد ويشكر ويحمد ، ويحب ويرجى ويخاف ، ويتوكل عليه ، ويستعان به ، ويستجار به ، ويلجأ إليه ، ويصمد إليه . فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده .ومن قام بقلبه هذا - معرفة وذوقا وحالا - صح له مقام التبتل ، والتجريد المحض . وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد والإخلاص فيه والصدق . ومرادهم هذا المعنى .
فقال علي رضي الله عنه : ، وقال دعوة الحق التوحيد رضي الله عنهما : شهادة أن لا إله إلا الله . وقيل : الدعاء بالإخلاص . والدعاء الخالص لا يكون إلا لله . ودعوة الحق دعوة الإلهية وحقوقها وتجريدها وإخلاصها . ابن عباس