فصل  
وكثيرا ما يشتبه في هذا الباب المحمود الكامل بالمذموم الناقص . فيشتبه التفويض بالإضاعة . فيضيع العبد حظه . ظنا منه أن ذلك تفويض وتوكل . وإنما هو تضييع لا تفويض . فالتضييع في حق الله . والتفويض في حقك .  
ومنه اشتباه التوكل بالراحة ، وإلقاء حمل الكل . فيظن صاحبه أنه متوكل . وإنما هو عامل على عدم الراحة .  
وعلامة ذلك أن  المتوكل مجتهد في الأسباب المأمور بها غاية الاجتهاد ،   مستريح من غيرها لتعبه بها . والعامل على الراحة آخذ من الأمر مقدار ما تندفع به الضرورة ، وتسقط به عنه مطالبة الشرع . فهذا لون ، وهذا لون .  
ومنه اشتباه خلع الأسباب بتعطيلها . فخلعها توحيد ، وتعطيلها إلحاد وزندقة . فخلعها عدم اعتماد القلب عليها ، ووثوقه وركونه إليها مع قيامه بها . وتعطيلها إلغاؤها عن الجوارح .  
ومنه :  اشتباه الثقة بالله بالغرور والعجز   ، والفرق بينهما : أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به ، ووثق بالله في طلوع ثمرته ، وتنميتها وتزكيتها ، كغارس الشجرة ، وباذر      [ ص: 124 ] الأرض . والمغتر العاجز قد فرط فيما أمر به ، وزعم أنه واثق بالله . والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود .  
ومنه :  اشتباه الطمأنينة إلى الله والسكون إليه ، بالطمأنينة إلى المعلوم ،   وسكون القلب إليه . ولا يميز بينهما إلا صاحب البصيرة . كما يذكر  عن   أبي سليمان الداراني     : أنه رأى رجلا  بمكة   لا يتناول شيئا إلا شربة من ماء  زمزم      . فمضى عليه أيام . فقال له  أبو سليمان  يوما : أرأيت لو غارت  زمزم   ، أي شيء كنت تشرب ؟ فقام وقبل رأسه ، وقال : جزاك الله خيرا ، حيث أرشدتني . فإني كنت أعبد  زمزم   منذ أيام . ثم تركه ومضى     .  
وأكثر المتوكلين سكونهم وطمأنينتهم إلى المعلوم . وهم يظنون أنه إلى الله ، وعلامة ذلك أنه متى انقطع معلوم أحدهم حضره همه وبثه وخوفه . فعلم أن طمأنينته وسكونه لم يكن إلى الله .  
ومنه :  اشتباه الرضا عن الله بكل ما يفعل بعبده - مما يحبه ويكرهه - بالعزم   على ذلك ، وحديث النفس به . وذلك شيء والحقيقة شيء آخر . كما يحكى  عن  أبي سليمان  أنه قال : أرجو أن أكون أعطيت طرفا من الرضا ، لو أدخلني النار لكنت بذلك راضيا     .  
فسمعت  شيخ الإسلام ابن تيمية   يقول : هذا عزم منه على الرضا وحديث نفس به . ولو أدخله النار لم يكن من ذلك شيء . وفرق بين العزم على الشيء وبين حقيقته .  
ومنه  اشتباه علم التوكل بحال التوكل      . فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله . فيظن أنه متوكل . وليس من أهل التوكل . فحال التوكل أمر آخر من وراء العلم به . وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها . وحال المحب العاشق وراء ذلك . وكمعرفة علم الخوف ، وحال الخائف وراء ذلك . وهو شبيه بمعرفة المريض ماهية الصحة وحقيقتها وحاله بخلافها .  
فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوي فيه بالحقائق ، والعوارض بالمطالب ، والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					