فصل  
والحياء من الحياة . ومنه الحيا للمطر ، لكنه مقصور ، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء . وقلة الحياء من موت القلب والروح . فكلما كان القلب      [ ص: 249 ] أحيى كان الحياء أتم .  
قال  الجنيد     - رحمه الله :  الحياء رؤية الآلاء      . ورؤية التقصير ، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء . وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح . ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق     .  
ومن كلام بعض الحكماء : أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه . وعمارة القلب : بالهيبة والحياء . فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير .  
وقال  ذو النون     : الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربك ، والحب ينطق والحياء يسكت . والخوف يقلق     .  
وقال  السري     : إن الحياء والأنس يطرقان القلب . فإن وجدوا فيه الزهد والورع وإلا رحلا     .  
وفي أثر إلهي ،  يقول الله عز وجل : ابن آدم . إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك . وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك . ومحوت من أم الكتاب زلاتك . وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة     .  
وفي أثر آخر :  أوحى الله عز وجل إلى  عيسى   عليه الصلاة والسلام : عظ نفسك . فإن اتعظت ، وإلا فاستحي مني أن تعظ الناس     .  
وقال   الفضيل بن عياض     : خمس من علامات الشقوة : القسوة في القلب . وجمود العين . وقلة الحياء . والرغبة في الدنيا . وطول الأمل     .  
وفي أثر إلهي :  ما أنصفني عبدي . يدعوني فأستحيي أن أرده . ويعصيني ولا يستحيي مني     .  
وقال   يحيى بن معاذ     :  من استحيا من الله مطيعا استحيا الله منه وهو مذنب      .  
وهذا الكلام يحتاج إلى شرح .  
ومعناه : أن  من غلب عليه خلق الحياء من الله حتى في حال طاعته      . فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستح خجل : فإنه إذا واقع ذنبا استحيا الله عز وجل من نظره إليه في تلك الحال لكرامته عليه . فيستحيي أن يرى من وليه ومن يكرم عليه : ما يشينه عنده . وفي الشاهد شاهد بذلك . فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به ، وأحبهم إليه ، وأقربهم منه - من صاحب ، أو ولد ، أو من يحبه - وهو يخونه . فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياء عجيب . حتى كأنه هو الجاني . وهذا غاية الكرم .  
 [ ص: 250 ] وقد قيل : إن  سبب هذا الحياء   أنه يمثل نفسه في حال طاعته كأنه يعصي الله عز وجل . فيستحيي منه في تلك الحال . ولهذا شرع الاستغفار عقيب الأعمال الصالحة ، والقرب التي يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل .  
وقيل : إنه يمثل نفسه خائنا ، فيلحقه الحياء . كما إذا شاهد رجلا مضروبا وهو صديق له ، أو من قد أحصر على المنبر عن الكلام ، فإنه يخجل أيضا . تمثيلا لنفسه بتلك الحال .  
وهذا قد يقع . ولكن حياء من اطلع على محبوبه وهو يخونه ليس من هذا . فإنه لو اطلع على غيره ممن هو فارغ البال منه ، لم يلحقه هذا الحياء ولا قريب منه . وإنما يلحقه مقته وسقوطه من عينه . وإنما سببه - والله أعلم - شدة تعلق قلبه ونفسه به . فينزل الوهم فعله بمنزلة فعله هو . ولا سيما إن قدر حصول المكاشفة بينهما . فإن عند حصولها يهيج خلق الحياء منه تكرما . فعند تقديرها ينبعث ذلك الحياء . هذا في حق الشاهد .  
وأما  حياء الرب تعالى من عبده      : فذاك نوع آخر . لا تدركه الأفهام . ولا تكيفه العقول . فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال . فإنه تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا . ويستحيي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام .  
وكان   يحيى بن معاذ  يقول : سبحان من يذنب عبده ويستحيي هو     . وفي أثر :  من استحيا من الله استحيا الله منه     .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					