الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال : وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : تمكن المريد ؛ وهو أن يجتمع له صحة قصد يسيره ، ولمع شهوده يحمله ، وسعة طريق تروحه .

المريد في اصطلاحهم : هو الذي قد شرع في السير إلى الله ، وهو فوق العابد ودون الواصل ، وهذا اصطلاح بحسب حال السالكين ، وإلا فالعابد مريد ، والسالك مريد ، والواصل مريد ، فالإرادة لا تفارق العبد ما دام تحت حكم العبودية .

وقد ذكر الشيخ للتمكن في هذه الدرجة ثلاثة أمور : صحة قصد ، وصحة علم ، وسعة طريق ، فبصحة القصد يصح سيره ، وبصحة العلم تنكشف له الطريق ، وبسعة الطريق يهون عليه السير ، وكل طالب أمر من الأمور فلا بد له من تعين مطلوبه ، وهو المقصود ، ومعرفة الطريق الموصل إليه ، والأخذ في السلوك ، فمتى فاته واحد من هذه الثلاث : لم يصح طلبه ولا سيره ، فالأمر دائر بين مطلوب يتعين إيثاره على غيره ، وطلب يقوم بقصد من يقصده ، وطريق توصل إليه .

فإذا تحقق العبد بطلب ربه وحده : تعين مطلوبه ، فإذا بذل جهده في طلبه صح له طلبه ، فإذا تحقق باتباع أوامره واجتناب نواهيه صح له طريقه ، وصحة القصد والطريق موقوفة على صحة المطلوب وتعينه .

فحكم القصد يتلقى من حكم المقصود ، فمتى كان المقصود أهلا للإيثار كان القصد المتعلق به كذلك ، فالقصد والطريق تابعان للمقصود .

وتمام العبودية : أن يوافق الرسول صلى الله عليه وسلم في مقصوده وقصده وطريقه ، فمقصوده : [ ص: 206 ] الله وحده ، وقصده : تنفيذ أوامره في نفسه وفي خلقه ، وطريقه : اتباع ما أوحي إليه ، فصحبه الصحابة رضي الله عنهم على ذلك حتى لحقوا به ، ثم جاء التابعون لهم بإحسان ، فمضوا على آثارهم .

ثم تفرقت الطرق بالناس ، فخيار الناس من وافقه في المقصود والطريق ، وأبعدهم عن الله ورسوله من خالفه في المقصود والطريق ؛ وهم أهل الشرك بالمعبود ، والبدعة في العبادة ، ومنهم من وافقه في المقصود وخالفه في الطريق ، ومنهم من وافقه في الطريق وخالفه في المقصود .

فمن كان مراده الله والدار الآخرة فقد وافقه في المقصود ، فإن عبد الله بما به أمر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فقد وافقه في الطريق ، وإن عبده بغير ذلك فقد خالفه في الطريق .

ومن كان مقصوده من أهل العلم ، والعبادة ، والزهد في الدنيا الرياسة ، فقد خالفه في المقصود ، وإن تقيد بالأمر .

فإن لم يتقيد به ، فقد خالفه في المقصود والطريق .

فإذا عرف هذا ، فقول الشيخ " تمكن المريد : أن يجتمع له صحة قصد يسيره " إشارة إلى صحة القصد .

وقوله : " ولمع شهود يحمله " إشارة إلى معرفة المقصود ، وقوة اليقين ، فيحصل لقلبه كشف يحمله على سلوكه ، فإن السالك إذا كشف له عن مقصوده حتى كأنه يعاينه جد في طلبه ، وذهبت عنه رخص الفتور .

وقوله : " وسعة طريق تروحه " إشارة إلى صحة طريقه ، وذلك بأمرين : بسعتها حتى لا تضيق عليه ، فيعجز عن سلوكها ، وباستقامتها حتى لا يزيغ عنها إلى غيرها ، فإن طريق الحق واسعة مستقيمة ، وطرق الباطل ضيقة معوجة ، وهذا يدل على رسوخ الشيخ في العلم ، ووقوفه مع السنة ، وفقهه في هذا الشأن .

التالي السابق


الخدمات العلمية