الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ويجوز اقتداء القائم الذي يركع ويسجد بالقاعد الذي يركع ويسجد استحسانا ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، والقياس أن لا يجوز وهو قول محمد ، وعلى هذا الاختلاف اقتداء القائم المومئ بالقاعد المومئ .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } أي لقائم ، لإجماعنا على أنه لو أم لجالس جاز ، ولأن المقتدي أعلى حالا من الإمام فلا يجوز اقتداؤه به كاقتداء الراكع الساجد بالمومئ ، واقتداء القارئ بالأمي .

                                                                                                                                ( وفقهه ) ما بينا أن المقتدي يبني تحريمته على تحريمة الإمام ، وتحريمة الإمام ما انعقدت للقيام بل انعقدت للقعود فلا يمكن بناء القيام عليها ، كما لا يمكن بناء القراءة على تحريمة الأمي ، وبناء الركوع والسجود على تحريمة المومئ .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان ما روي أن { آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب واحد متوشحا به قاعدا وأصحابه خلفه قيام يقتدون به ، فإنه لما ضعف في مرضه قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فقالت عائشة لحفصة رضي الله عنهما : قولي له إن أبا بكر رجل أسيف إذا وقف في مكانك لا يملك نفسه فلو أمرت غيره فقالت حفصة ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : أنتن صويحبات يوسف ، مروا أبا بكر يصلي بالناس فلما افتتح أبو بكر رضي الله عنه الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج وهو يهادى بين علي والعباس ، ورجلاه يخطان الأرض حتى دخل المسجد ، فلما سمع أبو بكر رضي الله عنه حسه تأخر ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس يصلي ، وأبو بكر يصلي بصلاته ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر ، يعني أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسمع تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكبر ، والناس يكبرون بتكبير أبي بكر } ، فقد ثبت الجواز على وجه لا يتوهم ورود النسخ عليه ، ولو توهم ورود النسخ يثبت الجواز ما لم يثبت النسخ ، فإذا لم يتوهم ورود النسخ أولى ، ولأن القعود غير القيام ، وإذا أقيم شيء مقام غيره جعل بدلا عنه ، كالمسح على الخف مع غسل الرجلين ، وإنما قلنا : إنهما متغايران بدليل الحكم والحقيقة .

                                                                                                                                ( أما ) الحقيقة فلأن القيام اسم لمعنيين متفقين في محلين مختلفين ، وهما الانتصابان في النصف الأعلى والنصف الأسفل ، فلو تبدل الانتصاب في النصف الأعلى بما يضاده وهو الانحناء سمي ركوعا لوجود الانحناء ; لأنه في اللغة عبارة عن الانحناء من غير اعتبار النصف الأسفل ; لأن ذلك وقع وفاقا ، فأما هو في اللغة فاسم لشيء واحد فحسب وهو الانحناء ، ولو تبدل الانتصاب في النصف الأسفل بما يضاده وهو انضمام الرجلين وإلصاق الألية بالأرض يسمى قعودا ، فكان القعود اسما لمعنيين مختلفين في محلين مختلفين ، وهما الانتصاب في النصف الأعلى والانضمام والاستقرار على الأرض في النصف الأسفل ، فكان القعود مضادا للقيام في أحد معنييه ، وكذا الركوع ، والركوع مع القعود يضاد كل واحد منهما للآخر بمعنى واحد وهو صفة النصف الأعلى ، واسم المعنيين يفوت بالكلية بوجود مضاد أحد معنييه كالبلوغ واليتم ، فيفوت القيام بوجود القعود أو الركوع بالكلية ، ولهذا لو قال قائل : ما قمت بل قعدت ، وما أدركت القيام بل أدركت الركوع - لم يعد مناقضا في كلامه .

                                                                                                                                وأما الحكم فلأن ما صار القيام لأجله طاعة يفوت عند الجلوس بالكلية ; لأن القيام إنما صار طاعة لانتصاب نصفه الأعلى ، بل لانتصاب رجليه ، لما يلحق رجليه من المشقة ، وهو بالكلية يفوت عند الجلوس ، فثبت حقيقة [ ص: 143 ] وحكما أن القيام يفوت عند الجلوس فصار الجلوس بدلا عنه ، والبدل عند العجز عن الأصل أو تعذر تحصيله يقوم مقام الأصل ، ولهذا جوزنا اقتداء الغاسل بالماسح لقيام المسح مقام الغسل في حق تطهير الرجلين عند تعذر الغسل لكونه بدلا عنه ، فكان القعود من الإمام بمنزلة القيام ولو كان قادرا عليه ، فجعلت تحريمة الإمام في حق الإمام منعقدة للقيام لانعقادها لما هو بدل القيام ، فصح بناء قيام المقتدي على تلك التحريمة ، بخلاف اقتداء القارئ بالأمي ; لأن هناك لم يوجد ما هو بدل القراءة بل سقطت أصلا ، فلم تنعقد تحريمة الإمام للقراءة ، فلا يجوز بناء القراءة عليه أما ههنا لم يسقط القيام أصلا بل أقيم بدله مقامه ، ألا ترى أنه لو اضطجع وهو قادر على القعود لا يجوز ؟ ولو كان القيام يسقط أصلا من غير بدل - وذا ليس وقت وجوب القعود بنفسه - كان ينبغي أنه لو صلى مضطجعا يجوز ، وحيث لم يجز دل أنه إنما لا يجوز لسقوط القيام إلى بدله ، وجعل بدله كأنه عين القيام ، وبخلاف اقتداء الراكع الساجد بالمومئ ، لما مر أن الإيماء ليس عين الركوع والسجود ، بل هو تحصيل بعض الركوع والسجود ، إلا أنه ليس فيه كمال الركوع والسجود فلم تنعقد تحريمة الإمام للفائت ، وهو الكمال فلم يمكن بناء كمال الركوع والسجود على تلك التحريمة .

                                                                                                                                وقد خرج الجواب عما ذكر من المعنى ، وما روي من الحديث كان في الابتداء ، فإنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجحش جنبه فلم يخرج أياما ، ودخل عليه أصحابه فوجدوه يصلي قاعدا فافتتحوا الصلاة خلفه قياما ، فلما رآهم على ذلك قال : " استنان بفارس والروم " ؟ وأمرهم بالقعود ، ثم نهاهم عن ذلك فقال : { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } ، ألا ترى أنه تكلم في الصلاة فقال : استنان بفارس والروم ، وأمرهم بالقعود ؟ فدل أن ذلك كان في الابتداء حين كان التكلم في الصلاة مباحا ، وما روينا آخر صلاة صلاها ، فانتسخ قوله السابق بفعله المتأخر ، وعلى هذا يخرج اقتداء المفترض بالمتنفل أنه لا يجوز عندنا خلافا للشافعي ، ويجوز اقتداء المتنفل بالمفترض عند عامة العلماء خلافا لمالك ( احتج ) الشافعي بما روى عبد الله أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة ، ومعاذ كان متنفلا وكان يصلي خلفه المفترضون ، ولأن كل واحد منهم يصلي صلاة نفسه لا صلاة صاحبه لاستحالة أن يفعل العبد فعل غيره ، فيجوز فعل كل واحد منهما ، سواء وافق فعل إمامه أو خالفه ، ولهذا جاز اقتداء المتنفل بالمفترض

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس صلاة الخوف وجعل الناس طائفتين ، وصلى بكل طائفة شطر الصلاة لينال كل فريق فضيلة الصلاة خلفه ، ولو جاز اقتداء المفترض بالمتنفل لأتم الصلاة بالطائفة الأولى ثم نوى النفل وصلى بالطائفة الثانية ; لينال كل طائفة فضيلة الصلاة خلفه من غير الحاجة إلى المشي وأفعال كثيرة ليست من الصلاة ، ولأن تحريمة الإمام ما انعقدت لصلاة الفرض ، والفرضية وإن لم تكن صفة زائدة على ذات الفعل فليست راجعة إلى الذات أيضا ، بل هي من الأوصاف الإضافية على ما عرف في موضعه ، فلم يصح البناء من المقتدي ، بخلاف اقتداء المتنفل بالمفترض ; لأن النفلية ليست من باب الصفة بل هي عدم ، إذ النفل عبارة عن أصل لا وصف له فكانت تحريمة الإمام منعقدة لما يبني عليه المقتدي وزيادة فصح البناء وقد خرج الجواب عن معناه ، فإن كل واحد منهما يصلي صلاة نفسه ; لأنا نقول : نعم ، لكن إحداهما بناء على الأخرى ، وتعذر تحقيق معنى البناء ، وما روي من الحديث فليس فيه أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الفرض ، فيحتمل أنه كان ينوي النفل ثم يصلي بقومه الفرض ، ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم لما بلغه طول قراءته : { إما أن تخفف بهم ، وإلا فاجعل صلاتك معنا } ، على أنه يحتمل أنه كان في الابتداء حين كان تكرار الفرض مشروعا ، وينبني على هذا الخلاف .

                                                                                                                                اقتداء البالغين بالصبيان في الفرائض أنه لا يجوز عندنا ; لأن الفعل من الصبي لا يقع فرضا فكان اقتداء المفترض بالمتنفل ، وعند الشافعي يصح .

                                                                                                                                ( واحتج ) بما روي أن عمر بن سلمة كان يصلي بالناس وهو ابن تسع سنين ، ولا يحمل على صلاة التراويح ; لأنها لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجماعة ، فدل أنه كان في الفرائض ، والجواب أن ذلك كان في ابتداء الإسلام حين لم تكن صلاة المقتدي متعلقة بصلاة الإمام على ما ذكرنا ، ثم نسخ .

                                                                                                                                وأما في التطوعات فقد روي عن محمد بن مقاتل الرازي أنه أجاز ذلك في التراويح ، والأصح أن [ ص: 144 ] ذلك لا يجوز عندنا ، لا في الفريضة ولا في التطوع ; لأن تحريمة الصبي انعقدت لنفل غير مضمون عليه بالإفساد ، ونفل المقتدي البالغ مضمون عليه بالإفساد فلا يصح البناء ، وينبغي للرجل أن يؤدب ولده على الطهارة والصلاة إذا عقلهما ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا ، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا } ، ولا يفترض عليه إلا بعد البلوغ ، ونذكر حد البلوغ في موضع آخر إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية