الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

المحبة النافعة

[ ص: 228 ]

اعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلت القلوب على محبته ، وفطرت الخليقة على تأليهه ، وبها قامت الأرض والسماوات ، وعليها فطرت المخلوقات ، وهي سر شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن الإله هو الذي تأله القلوب بالمحبة والإجلال ، والتعظيم والذل له والخضوع والتعبد ، والعبادة لا تصلح إلا له وحده ، والعبادة هي : كمال الحب مع كمال الخضوع والذل ، والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله ، والله تعالى يحب لذاته من جميع الوجوه ، وما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته .

وقد دل على وجوب محبته سبحانه جميع كتبه المنزلة ، ودعوة جميع رسله ، وفطرته التي فطر عباده عليها ، وما ركب فيهم من العقوق ، وما أسبغ عليهم من النعم ، فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها وأحسن إليها ، فكيف بمن كان الإحسان منه ؟ وما بخلقه جميعهم من نعمة فمنه وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ سورة النحل : 53 ] .

وما تعرف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله ونهاية جلاله وعظمته .

والمحبة لها داعيان : الجمال ، والجلال والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك ، فإنه جميل يحب الجمال ، بل الجمال كله له ، والإجلال كله منه ، فلا يستحق أن يحب لذاته من كل وجه سواه ، قال الله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ سورة آل عمران : 31 ] .

وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون [ سورة المائدة : 54 - 56 ] .

[ ص: 229 ] فالولاية أصلها الحب ، فلا موالاة إلا بحب ، كما أن العداوة أصلها البغض ، والله ولي الذين آمنوا وهم أولياؤه ، فهم يوالونه بمحبتهم له ، وهو يواليهم بمحبته لهم ، فالله يوالي عبده المؤمن بحسب محبته له .

ولهذا أنكر سبحانه على من اتخذ من دونه أولياء ، بخلاف من والى أولياءه ، فإنه لم يتخذهم من دونه ، بل موالاته لهم من تمام موالاته .

وقد أنكر على من سوى بينه وبين غيره في المحبة ، وأخبر أن من فعل ذلك فقد اتخذ من دونه أندادا يحبهم كحب الله ، قال تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [ سورة البقرة : 165 ] .

وأخبر عمن سوى بينه وبين الأنداد في الحب ، أنهم يقولون في النار لمعبوديهم : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [ سورة الشعراء : 97 - 98 ] .

وبهذا التوحيد في الحب أرسل الله سبحانه جميع رسله ، وأنزل جميع كتبه ، وأطبقت عليه دعوة جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم ، ولأجله خلقت السماوات والأرض والجنة والنار ، فجعل الجنة لأهله ، والنار للمشركين به فيه .

وقد أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه : لا يؤمن عبد حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ، فكيف بمحبة الرب جل جلاله ؟

وقال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لا ، حتى أكون أحب إليك من نفسك أي لا تؤمن حتى تصل محبتك إلى هذه الغاية .

وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بنا من أنفسنا في المحبة ولوازمها أفليس الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه أولى بمحبته وعبادته من أنفسهم ، وكل ما منه إلى عبده المؤمن يدعو إلى محبته ، مما يحب العبد ويكره - فعطاؤه ومنعه ، ومعافاته وابتلاؤه ، وقبضه وبسطه ، وعدله وفضله ، وإماتته وإحياؤه ، ولطفه وبره ، ورحمته وإحسانه ، وستره وعفوه ، وحلمه وصبره على عبده ، وإجابته لدعائه ، وكشف كربه ، وإغاثة لهفته ، وتفريج كربته من غير حاجة منه إليه ، بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه ، كل ذلك داع للقلوب إلى تأليهه ومحبته ، بل تمكينه عبده من معصيته وإعانته عليها ، وستره حتى يقضي وطره منها ، وكلاءته وحراسته له ، ويقضي وطره من معصيته ، يعينه ويستعين عليها بنعمه - من أقوى الدواعي إلى محبته ، فلو أن مخلوقا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم تملك قلبه عن محبته ، فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه [ ص: 230 ] من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس ، مع إساءته ؟ فخيره إليه نازل ، وشره إليه صاعد ، يتحبب إليه بنعمه وهو غني عنه ، والعبد يتبغض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه ، فلا إحسانه وبره وإنعامه إليه يصده عن معصيته ، ولا معصية العبد ولؤمه يقطع إحسان ربه عنه .

فألأم اللؤم تخلف القلوب عن محبة من هذا شأنه ، وتعلقها بمحبة سواه .

وأيضا فكل من تحبه من الخلق أو يحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك ، والله سبحانه وتعالى يريدك لك ، كما في الأثر الإلهي : [ عبدي كل يريدك لنفسه ، وأنا أريدك لك ] ، فكيف لا يستحي العبد أن يكون ربه له بهذه المنزلة ، وهو معرض عنه ، مشغول بحب غيره ، قد استغرق قلبه بمحبة سواه ؟

وأيضا ، فكل من تعامله من الخلق إن لم يربح عليك لم يعاملك ، ولا بد له من نوع من أنواع الربح ، والرب تعالى إنما يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه ، فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، والسيئة بواحدة وهي أسرع شيء محوا .

وأيضا هو سبحانه خلقك لنفسه ، وخلق كل شيء لك في الدنيا والآخرة ، فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته ، وبذل الجهد في مرضاته ؟

وأيضا فمطالبك - بل مطالب الخلق كلهم جميعا - لديه ، وهو أجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين ، أعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله ، يشكر القليل من العمل وينميه ، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ، يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ، لا يشغله سمع عن سمع ، ولا تغلطه كثرة المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، بل يحب الملحين في الدعاء ، ويحب أن يسأل ، ويغضب إذا لم يسأل ، يستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه ، ويستره حيث لا يستر نفسه ، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه ، دعاه بنعمه وإحسانه وأياديه إلى كرامته ورضوانه ، فأبى ، فأرسل رسله في طلبه ، وبعث إليه معهم عهده ، ثم نزل إليه سبحانه نفسه ، وقال : من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ؟ كما قيل : " أدعوك وللوصل تأبى ، أبعث رسولي في الطلب ، أنزل إليك بنفسي ، ألقاك في النوم " .

وكيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يذهب بالسيئات إلا هو ، ولا يجيب الدعوات ، ويقيل العثرات ، ويغفر الخطيئات ، ويستر العورات ، ويكشف الكربات ، ويغيث اللهفات ، وينيل الطلبات سواه ؟ .

فهو أحق من ذكر ، وأحق من شكر ، وأحق من عبد ، وأحق من حمد ، وأنصر من ابتغي ، وأرأف من ملك ، وأجود من سئل ، وأوسع من أعطى ، وأرحم من استرحم ، وأكرم من قصد ، وأعز من التجئ إليه وأكفى من توكل عليه ، أرحم بعبده من الوالدة [ ص: 231 ] بولدها ، وأشد فرحا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا يئس من الحياة ثم وجدها .

وهو الملك لا شريك له ، والفرد فلا ند له ، كل شيء هالك إلا وجهه ، لن يطاع إلا بإذنه ، ولن يعصى إلا بعلمه ، يطاع فيشكر ، وبتوفيقه ونعمته أطيع ، ويعصى فيغفر ويعفو ، وحقه أضيع ، فهو أقرب شهيد ، وأجل حفيظ ، وأوفى بالعهد ، وأعدل قائم بالقسط ، حال دون النفوس ، وأخذ بالنواصي وكتب الآثار ، ونسخ الآجال ، فالقلوب له مفضية ، والسر عنده علانية ، والغيب لديه مكشوف ، وكل أحد إليه ملهوف ، وعنت الوجوه لنور وجهه ، وعجزت القلوب عن إدراك كنهه ، ودلت الفطر والأدلة كلها على امتناع مثله وشبهه ، أشرقت لنور وجهه الظلمات ، واستنارت له الأرض والسماوات ، وصلحت عليه جميع المخلوقات ، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه :


ما اعتاض باذل حبه لسواه من عوض ولو ملك الوجود بأسره



التالي السابق


الخدمات العلمية