الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

فصل

مدخل المعاصي

وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة ، فنذكر في كل باب منها فصلا يليق به .

النظرة

فأما اللحظات : فهي رائد الشهوة ورسولها ، وحفظها أصل حفظ الفرج ، فمن أطلق بصره أورد نفسه موارد المهلكات .

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تتبع النظرة النظرة ، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى .

وفي المسند عنه - صلى الله عليه وسلم - : النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، فمن غض بصره عن محاسن امرأة لله ، أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه هذا معنى الحديث .

[ ص: 153 ] وقال : غضوا أبصاركم ، واحفظوا فروجكم ، وقال : إياكم والجلوس على الطرقات ، قالوا : يا رسول الله مجالسنا ما لنا بد منها ، قال : فإن كنتم لا بد فاعلين ، فأعطوا الطريق حقه ، قالوا : وما حقه ؟ قال : غض البصر وكف الأذى ورد السلام .

والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان ، فالنظرة تولد خطرة ، ثم تولد الخطرة فكرة ، ثم تولد الفكرة شهوة ، ثم تولد الشهوة إرادة ، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة ، فيقع الفعل ولا بد ، ما لم يمنع منه مانع ، وفي هذا قيل : الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده .

قال الشاعر :


كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر     كم نظرة بلغت في قلب صاحبها
كمبلغ السهم بين القوس والوتر     والعبد ما دام ذا طرف يقلبه
في أعين العين موقوف على الخطر     يسر مقلته ما ضر مهجته
لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

ومن آفات النظر : أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات ، فيرى العبد ما ليس قادرا عليه ولا صابرا عنه ، وهذا من أعظم العذاب ، أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه ، ولا قدرة على بعضه .

قال الشاعر :


وكنت متى أرسلت طرفك رائدا     لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر     عليه ولا عن بعضه أنت صابر



وهذا البيت يحتاج إلى شرح ، ومراده : أنك ترى ما لا تصبر عن شيء منه ولا تقدر عليه ، فإن قوله : " لا كله أنت قادر عليه " نفي لقدرته على الكل الذي لا ينتفي إلا بنفي القدرة عن كل واحد واحد .

وكم من أرسل لحظاته فما قلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلا ، كما قيل :


يا ناظرا ما أقلعت لحظاته     حتى تشحط بينهن قتيلا



ولي من أبيات :


مل السلامة فاغتدت لحظاته     وقفا على طلل يظن جميلا
ما زال يتبع إثره لحظاته     حتى تشحط بينهن قتيلا



[ ص: 154 ] ومن العجب : أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتى يتبوأ مكانا من قلب الناظر ، ولي من قصيدة :


يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا     أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له     احبس رسولك لا يأتيك بالعطب



وأعجب من ذلك : أن النظرة تجرح القلب جرحا ، فيتبعها جرح على جرح ، ثم لا يمنعه ألم الجراحة من استدعاء تكرارها ، ولي أيضا في هذا المعنى :


ما زلت تتبع نظرة في نظرة     في إثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهو في ال     تحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا     فالقلب منك ذبيح أي ذبيح



وقد قيل : إن حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات .

التالي السابق


الخدمات العلمية