[ ص: 52 ] ما لا يعلمه إلا الله . وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة ، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة
فمنها : فإن العلم نور يقذفه الله في القلب ، والمعصية تطفئ ذلك النور . حرمان العلم ،
ولما جلس الإمام بين يدي الشافعي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته ، وتوقد ذكائه ، وكمال فهمه ، فقال : إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا ، فلا تطفئه بظلمة المعصية .
وقال رحمه الله : الشافعي
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال اعلم بأن العلم فضل
وفضل الله لا يؤتاه عاصي
ومنها : وفي المسند : حرمان الرزق ، وقد تقدم ، وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق فترك التقوى مجلبة للفقر ، فما استجلب رزق الله بمثل ترك المعاصي . إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه
ومنها : لا توازنها ولا تقارنها لذة أصلا ، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة ، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة ، وما لجرح بميت إيلام ، فلو لم تترك الذنوب إلا حذرا من وقوع تلك الوحشة ، لكان العاقل حريا بتركها . وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله
وشكا رجل إلى بعض العارفين وحشة يجدها في نفسه فقال له :
إذا كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس
ومنها : ولاسيما أهل الخير منهم ، فإنه يجد وحشة بينه وبينهم ، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم ، وحرم بركة الانتفاع بهم ، وقرب من حزب الشيطان ، بقدر ما بعد من حزب الرحمن ، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم ، فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه ، وبينه وبين نفسه ، فتراه مستوحشا من نفسه . الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس ،
[ ص: 53 ] وذكر أيضا عن حدثنا وكيع زكريا عن عامر قال : كتبت عائشة إلى معاوية : أما بعد : فإن العبد إذا عمل بمعصية الله عد حامده من الناس ذاما .
ذكر أبو نعيم عن عن سالم بن أبي الجعد قال : ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر ، ثم قال : أتدري مم هذا ؟ قلت : لا ، قال : إن العبد يخلو بمعاصي الله فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر . أبي الدرداء
وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن : أنه لما ركبه الدين اغتم لذلك ، فقال : إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة . محمد بن سيرين
قد لا يؤثر الذنب في الحال
وهاهنا وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال ، وقد يتأخر تأثيره فينسى ، ويظن العبد أنه لا يغبر بعد ذلك ، وأن الأمر كما قال القائل : نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب ،
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
وقد ذكر الإمام أحمد عن : اعبدوا الله كأنكم ترونه ، وعدوا أنفسكم من الموتى ، واعلموا أن قليلا يغنيكم ، خير من كثير يلهيكم ، واعلموا أن البر لا يبلى ، وأن الإثم لا ينسى . أبي الدرداء
ونظر بعض العباد إلى صبي ، فتأمل محاسنه ، فأتي في منامه وقيل له : لتجدن غبها بعد أربعين سنة .
هذا مع أن قال للذنب نقدا معجلا لا يتأخر عنه ، : إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته . سليمان التيمي
وقال عجبت من ذي عقل يقول في دعائه : اللهم لا تشمت بي الأعداء ، ثم هو يشمت بنفسه كل عدو له ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال يعصي الله ويشمت به في القيامة كل عدو . يحيى بن معاذ الرازي
وقال ذو النون : من خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية .
[ ص: 54 ] وقال بعض السلف : إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي ، وامرأتي .
ومنها : وهذا كما أن من تلقى الله جعل له من أمره يسرا ، فمن عطل التقوى جعل له من أمره عسرا ، ويا لله العجب ! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه وطرقها معسرة عليه ، وهو لا يعلم من أين أتي ؟ تعسير أموره عليه ، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه أو متعسرا عليه ،
ومنها : إذا ادلهم ، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره ، فإن ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته ، حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر ، كأعمى أخرج في ظلمة الليل يمشي وحده ، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين ، ثم تقوى حتى تعلو الوجه ، وتصير سوادا في الوجه حتى يراه كل أحد . الطاعة نور ، والمعصية ظلمة ،
قال : إن للحسنة ضياء في الوجه ، ونورا في القلب ، وسعة في الرزق ، وقوة في البدن ، ومحبة في قلوب الخلق ، وإن عبد الله بن عباس ونقصا في الرزق ، وبغضة في قلوب الخلق . للسيئة سوادا في الوجه ، وظلمة في القبر والقلب ، ووهنا في البدن ،
ومنها أن أما وهنها للقلب فأمر ظاهر ، بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية . المعاصي توهن القلب والبدن ،
وأما وهنها للبدن فإن المؤمن قوته من قلبه ، وكلما قوي قلبه قوي بدنه ، وأما الفاجر فإنه - وإن كان قوي البدن - فهو أضعف شيء عند الحاجة ، فتخونه قوته عند أحوج ما يكون إلى نفسه فتأمل قوة أبدان فارس والروم ، كيف خانتهم ، أحوج ما كانوا إليها ، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم ؟
ومنها : فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن طاعة تكون بدله ، ويقطع طريق طاعة أخرى ، فينقطع عليه بالذنب طريق ثالثة ، ثم رابعة ، وهلم جرا ، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة ، كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها ، وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها ، والله المستعان . حرمان الطاعة ،
طول العمر وقصره
ومنها : أن وتمحق بركته ولا بد ، فإن البر كما يزيد في العمر ، فالفجور يقصر العمر . المعاصي تقصر العمر
وقد اختلف الناس في هذا الموضع .
[ ص: 55 ] فقالت طائفة : نقصان عمر العاصي هو ذهاب بركة عمره ومحقها عليه ، وهذا حق ، وهو بعض تأثير المعاصي .
وقالت طائفة : بل تنقصه حقيقة ، كما تنقص الرزق ، فجعل الله سبحانه للبركة في الرزق أسبابا كثيرة تكثره وتزيده ، وللبركة في العمر أسبابا تكثره وتزيده .
قالوا ولا تمنع زيادة العمر بأسباب كما ينقص بأسباب ، فالأرزاق والآجال ، والسعادة والشقاوة ، والصحة والمرض ، والغنى والفقر ، وإن كانت بقضاء الرب عز وجل ، فهو يقضي ما يشاء بأسباب جعلها موجبة لمسبباتها مقتضية لها .
وقالت طائفة أخرى : تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب ، ولهذا جعل الله سبحانه الكافر ميتا غير حي ، كما قال تعالى ، أموات غير أحياء [ سورة النحل : 21 ] .
فالحياة في الحقيقة حياة القلب ، وعمر الإنسان مدة حياته فليس عمره إلا أوقات حياته بالله ، فتلك ساعات عمره ، فالبر والتقوى والطاعة تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره ، ولا عمر له سواها .
وبالجملة ، فالعبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غب إضاعتها يوم يقول : ياليتني قدمت لحياتي [ سورة الفجر : 24 ] .
فلا يخلو إما أن يكون له مع ذلك تطلع إلى مصالحه الدنيوية والأخروية أو لا ، فإن لم يكن له تطلع إلى ذلك فقد ضاع عليه عمره كله ، وذهبت حياته باطلا ، وإن كان له تطلع إلى ذلك طالت عليه الطريق بسبب العوائق ، وتعسرت عليه أسباب الخير بحسب اشتغاله بأضدادها ، وذلك نقصان حقيقي من عمره .
وسر المسألة أن عمر الإنسان مدة حياته ولا حياة له إلا بإقباله على ربه ، والتنعم بحبه وذكره ، وإيثار مرضاته .