ذكر استيلاء  الموفق  على طهثا   
لما فرغ  الموفق  من الذي يحتاج إليه سار عن بردودا  إلى طهثا  لعشر بقين من ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين ، وكان مسيره على الظهر في خيله ، وانحدرت السفن والآلات ، فنزل بقرية الجوزية  ، وعقد جسرا ، ثم غدا فعبر خيله عليه ، ثم عبر بعد ذلك ، فسار حتى نزل معسكرا على ميلين من طهثا  ، فأقام هنالك يومين . 
 [ ص: 379 ] ومطرت السماء مطرا شديدا ، فشغل عن القتال ، ثم ركب لينظر موضعا للحرب ، فانتهى إلى قريب من سور مدينةسليمان  بطهثا  ، وهي التي سماها  المنصور  ، فتلقاه خلق كثير ، وخرج عليهم كمناء من مواضع شتى ، واشتدت الحرب ، وترجل جماعة من الفرسان ، وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الذي كانوا فيه ، وأسروا من غلمان  الموفق  جماعة . 
ورمى   أبو العباس بن الموفق  أحمد بن هندي الحيامي  بسهم خالط دماغه ، فسقط وحمل إلى  العلوي  ، صاحب الزنج  ، فلم يلبث أن مات ، فحضره  الخبيث  ، وصلى عليه ، وعظمت لديه المصيبة بموته ، إذ كان أعظم أصحابه ( غناء عنه ) . 
وانصرف  الموفق  إلى عسكره وقت المغرب وأمر أصحابه بالتحارس ليلتهم والتأهب للحرب ، فلما أصبحوا ، وذلك يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر ، عبأ  الموفق  أصحابه ، وجعلهم كتائب يتلو بعضهم بعضا ، فرسانا ورجالة ، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها إلى النهر الذي يشق مدينة سليمان  ، وهو النهر المعروف بنهر المنذر  ، ورتب أصحابه في المواضع التي يخاف منها ، ثم نزل فصلى أربع ركعات ، وابتهل إلى الله تعالى في النصر ، ثم لبس سلاحه ، وأمر ابنه  العباس  أن يتقدم إلى السور ، فتقدم إليه ، فرأى خندقا ، فأحجم الناس عنه ، فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم ، فاقتحموه وعبروه ، وانتهوا إلى الزنج  وهم على سورهم . 
فلما رأى الزنج  تسرعهم إليهم ولوا منهزمين ، واتبعهم أصحاب  أبي العباس  ، فدخلوا المدينة ، وكان الزنج  قد حصنوها بخمسة خنادق ، وجعلوا أمام كل خندق سورا ، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق ، فكشفهم أصحاب  أبي العباس  ، ودخلت الشذا والسميريات المدينة من النهر ، فجعلت تغرق كل ما مرت لهم به من سميرية وشذاة ، وقتلوا من بجانبي النهر وأسروا حتى أجلوهم عن المدينة وعما اتصل بها ، وكان مقدار العمارة فيها فرسخا . 
 [ ص: 380 ] وحوى  الموفق  ذلك كله ، وأفلت  سليمان بن جامع  ونفر من أصحابه ، وكثر القتل فيهم والأسر ، واستنقذ  أبو أحمد  من نساء أهل واسط   ، والكوفة  ، والقرى ، وغيرها ، وصبيانهم أكثر من عشرين ألفا ، فأمر  أبو أحمد  بحملهم إلى واسط  ، ودفعهم إلى أهليهم ; وأحذ ما كان فيها من الذخائر ، والأموال ، وأمر بصرفه إلى الأجناد ، وأسر من نساء  سليمان  وأولاده عدة ، وتخلص من كان أخذ من أصحاب  الموفق  ، ونجا جمع كثير إلى الآجام فأمر أصحابه بطلبهم ، فأقام سبعة عشر يوما ، وهدم سور المدينة ، وطم خنادقها ، وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا ، فكان إذا أتي بالواحد منهم عفا عنه وضمه إلى قواده وغلمانه ، لما كان دبره من استمالتهم . 
وأرسل في طلب  سليمان بن جامع  ، حتى بلغوا دجلة العوراء  ، فلم يظفروا به ، وأمر  زيرك  بالمقام بطهثا  ليتراجع إلى تلك الناحية أهلها ويأمنوا . 
				
						
						
