الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر حصار المستعين ببغداذ

ثم إن المعتز عقد لأخيه أبي أحمد بن المتوكل ، وهو الموفق ، لسبع بقين من المحرم ، على حرب المستعين ، ومحمد بن عبد الله ، وولاه ذلك ، وضم إليه الجيش ، وجعل إليه الأمور كلها ، وجعل التدبير إلى كلباتكين التركي ، فسار في خمسين ألفا من [ ص: 214 ] الأتراك والفراغنة ، وألفين من المغاربة ، فلما بلغ عكبرا صلى بها ، وخطب للمعتز ، وكتب بذلك إلى المعتز ، فذكر أهل عكبرا أنهم كانوا على خوف شديد من مسير محمد بن عبد الله إليهم ، ومحاربتهم ، فانتهبوا القرى ما بين عكبرا وبغداد ، فخربت الضياع ، وأخذ الناس في الطريق .

ولما وصل أبو أحمد إلى عكبرا هرب إليه جماعة كبيرة من أصحاب بغا الصغير ، ووصل أبو أحمد وعسكره باب الشماسية لسبع خلون من صفر ، فقال بعض البصريين ، يعرف بباذنجانة :


يا بني طاهر أتتكم جنود الله والموت بينها مشهور وجيوش إمامهم أبو أحمد نعم المولى ونعم النصير

ولما نزل أبو أحمد بباب الشماسية ولى المستعين باب الشماسية الحسين بن إسماعيل ، وجعل من هناك من القواد تحت يده ، فلم يزل هناك مدة الحرب إلى أن ساروا إلى الأنبار ، فلما كان عاشر صفر وافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية ، فوقفوا بالقرب منه ، فوجه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل ، والشاه بن ميكال ، وبندار الطبري ، فيمن معهم ، وعزم على الركوب لقتالهم ، فأتاه الشاه فأعلمه أن الأتراك لما عاينوا الأعلام والرايات قد أقبلت نحوهم رجعوا إلى معسكرهم ، فترك محمد الركوب .

فلما كان الغد عزم محمد على توجيه الجيوش إلى القفص ليعرضهم هناك ، وليرهب الأتراك ، وركب ومعه وصيف وبغا في الدروع ، ومضى معه الفقهاء والقضاة ، وبعث إليهم يدعوهم إلى الرجوع عما هم عليه من الطغيان والعصيان ، ويبذل لهم الأمان على أن يكون المعتز ولي العهد بعد المستعين ، فلم يجيبوا ، ومضى نحو باب قطربل ، فنزل على شاطئ دجلة هو ووصيف وبغا ، ولم يمكنه التقدم لكثرة الناس فانصرف .

فلما كان من الغد أتاه رسل وجه الفلس ، وغيره من القواد ، يعلمونه أن الترك قد [ ص: 215 ] دنوا ، وضربوا مضاربهم برقة الشماسية ، وأرسل إليهم : لا تبدأوهم بقتال ، وإن قاتلوكم فلا تقاتلوهم ، وادفعوا اليوم ، فوافى باب الشماسية منهم اثنا عشر فارسا فرموا بالسهام ، ولم يقاتلهم أحد ، فلما طال مقامهم رماهم المنجنيقي بحجر ، فقتل منهم رجلا ، فأخذوه ، ورجعوا .

وقدم عبيد الله بن سليمان خليفة وصيف التركي من مكة في ثلاثمائة رجل ، فخلع عليه محمد بن عبد الله ، ووافى الأتراك في هذا اليوم باب الشماسية ، فخرج الحسين بن إسماعيل ومن معه من القواد لمحاربتهم ، فاقتتلوا وقتل من الفريقين ، وجرح ، وكانوا في القتلى والجرحى على السواء ، وانهزم أهل بغداد ، وثبت أصحاب البواري ثم انصرفوا ، وأحضر الأتراك منجنيقا ، فغلبهم عليه العامة ، فأخذوه .

ثم سار جماعة من الأتراك إلى ناحية النهروان ، فوجه محمد بن عبد الله قائدين من أصحابه في جماعة ، وأمرهما بالمقام بتلك الناحية ، وحفظها من الأتراك ، فقاتلوهم ، فانهزم أصحاب محمد إلى بغداد ، وأخذت دوابهم ، فدخلوا بغداد منهزمين ، ووجه الأتراك برؤوس القتلى إلى سامرا ، واستولوا على طريق خراسان ، وانقطع الطريق عن بغداد .

ووجه المعتز عسكرا في الجانب الغربي فساروا إلى بغداد ، وجاوزوا قطربل ، فضربوا عسكرهم هناك ، وذلك لاثنتي عشرة خلت من صفر ، فلما كان من الغد وجه محمد بن عبد الله عسكرا إليهم ، فلقيهم الشاه بن ميكال ، فتحاربوا ، فانهزم أصحاب المعتز ، وخرج عليهم كمين لمحمد بن عبد الله ، فانهزموا ووضع أصحاب محمد فيهم السيف ، فقتلوهم أكثر قتل ، ولم يفلت منهم إلا القليل ، ونهب عسكرهم جميعه ، ومن سلم من القتل ألقى نفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد ، فأخذه أصحاب السفن ، وحملوا الأسرى والرؤوس في الزواريق ، فنصب بعضها ببغداذ .

وأمر محمد لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة ، والخلع ، والأموال ، وطلبت المنهزمة ، فبلغ بعضهم أوانا ، وبعضهم بلغ سامرا ، وكان عسكر المعتز أربعة آلاف فقتل منهم ألفان ، وغرق منهم جماعة ، وأسر جماعة ، فخلع محمد على جميع القواد ، [ ص: 216 ] على كل قائد أربع خلع ، وطوقا وسوارا ، من ذهب .

وكان عود أهل بغداد عنهم مع المغرب ، وكان أكثر العمل في هذا اليوم للعيارين .

وركب محمد بن عبد الله بن طاهر لاثنتي عشرة بقيت من صفر إلى الشماسية ، فأمر بهدم ما وراء سورها من الدور ، والحوانيت ، والبساتين ، من باب الشماسية إلى ثلاثة أبواب ، ليتسع على من يحارب .

وقدم مال من فارس والأهواز مع منكجور الأشروسني ، فوجه أبو أحمد الأتراك لأخذه ، فوجه محمد بن عبد الله جماعة لحفظ المال ، فعدلوا به عن الأتراك ، فقدموا به بغداد ، فلما علم الأتراك بذلك عدلوا نحو النهروان ، فقتلوا وأحرقوا سفن الجسر ، وهي عشرون سفينة ، ورجعوا إلى سامرا .

وقدم محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد ، وكان المستعين قلده إمرة الثغور الجزرية ، كان بمدينة بلد ينتظر الجنود والمال ليسير إلى الثغور ، فلما كان من أمر المستعين والأتراك ما ذكرنا ، سار من بلد إلى بغداد على طريق الرقة في أصحابه وخاصته ، وهم زهاء أربع مائة ، فخلع عليه محمد بن عبد الله خمس خلع ، ثم وجهه في جيش كثيف لمحاربة أيوب بن أحمد ، فأخذ على طريق الفرات ، فحاربه في نفر يسير ، فهزم محمد وصار إلى ضيعته بالسواد ، فلما سمع محمد بهزيمته قال : لا يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به .

وكانت للأتراك وقعة بباب الشماسية ، فقاتلوا عليه قتالا شديدا ، حتى كشفوا من عليه ورموا ( به ) المنجنيق بالنار والنفط ، فلم يحرقه ، ثم كثر الجند على الباب ، فأزالهم عن موقفهم بعد قتلى وجرحى ، ووجه محمد العرادات في السفن فرموهم بها رميا شديدا ، فقتلوا منهم نحو مائة ، وكان بعض المغاربة قد صار إلى السور ، فرمى بكلاب ، فتعلق به ، فأخذه الموكلون بالسور ورفعوه فقتلوه ، وألقوا رأسه إلى الأتراك ، فرجعوا إلى معسكرهم .

وأراد بعض الموكلين بالسور أن يصيح : يا مستعين ، يا منصور ، فصاح : يا معتز ، يا [ ص: 217 ] منصور ، فظنوه من المغاربة ، فقتلوه .

وتقدم الأتراك ، في بعض الأيام ، إلى باب الشماسية ، فرمي الدرغمان ، مقدم المغاربة ، بحجر منجنيق فقتله ، وكان شجاعا ، وكان بعض المغاربة يجيء فيكشف إسته ، ويصيح ، ويضرط ، ثم يرجع ، فرماه بعض أصحاب محمد بسهم في دبره ، فجرح من خلفه ، فخر ميتا .

واجتمعت العامة بسامرا ونهبوا سوقي الجوهريين والصيارفة وغيرهما ، فشكا التجار ذلك إلى إبراهيم المؤيد ، فقال لهم : كان ينبغي أن تحولوا متاعكم إلى منازلكم ، ولم يصنع شيئا ، ولا أنكر ذلك .

وقدم لثمان بقين من صفر جماعة من أهل الثغور يشكون بلكاجور ، ويزعمون أن بيعة المعتز وردت عليه ، فدعا الناس إلى بيعته ، وأخذ الناس بذلك ، فمن امتنع ضربه وحبسه ، وأنهم امتنعوا وهربوا ، فقال وصيف : ما أظنه إلا ظن أن المستعين مات ، وقام المعتز ، فقالوا : ما فعله إلا عن عمد ، فورد كتاب بلكاجور لأربع بقين من صفر ، يذكر أنه كان بايع المعتز ، فلما ورد كتاب المستعين بصحة الأمر جدد له البيعة ، وأنه على السمع والطاعة ، فأراد موسى بن بغا أن يسير إلى المستعين ، فامتنع أصحابه الأتراك من موافقته على ذلك ، وحاربوه ، فقتل بينهم قتلى .

وقدم من البصرة عشر سفائن بحرية ، في كل سفينة خمسة وأربعون رجلا ما بين نفاط وغيره ، فمرت إلى ناحية الشماسية ، فرمى من فيها بالنيران إلى عسكر أبي أحمد ، فانتقلوا إلى موضع لا ينالهم شيء من النار .

ولليلة بقيت من صفر تقدم الأتراك إلى أبواب بغداد ، فقاتلوا عليها ، فقتل من الفريقين جماعة كثيرة ، ودام القتال إلى العصر .

[ ص: 218 ] وفي ربيع الأول عمل محمد بن عبد الله كافركونات وفرقها على العيارين ، فخرجوا بها إلى أبواب بغداد ، وقتلوا من الأتراك نحوا من خمسين رجلا .

ولأربع عشرة خلت من ربيع الأول قدم مزاحم بن خاقان من ناحية الرقة ، فتلقاه الناس ومعه زهاء ألف رجل ، فلما وصل خلع عليه سبع خلع ، وقلده سيفا .

ووجه المعتز عسكرا يبلغون ثلاثة آلاف ، فعسكروا بإزاء عسكر أبي أحمد بباب قطربل ، وركب محمد بن عبد الله في عسكره ، وخرج من النظارة خلق كثير ، فحاذى عسكر أبي أحمد ، فكانت بينهم في الماء جولة ، وقتل من أصحاب أبي أحمد أكثر من خمسين رجلا ، ومضى النظارة فجازوا العسكر بنصف فرسخ ، فعبرت إليهم سفن لأبي أحمد ، فنالت منهم ، ورجع محمد بن عبد الله ، وأمر ابن أبي عون برد الناس ، فأمرهم بالعود ، فأغلظوا له ، فشتمهم وشتموه ، وضرب رجلا منهم فقتله ، فحملت عليه العامة ، فانكشف من بين أيديهم ، فأخذ أصحاب أبي أحمد أربع سفائن ، وأحرقوا سفينة فيها عرادة لأهل بغداد .

وسار العامة إلى دار ابن أبي عون لينهبوها ، وقالوا مايل الأتراك ، فانهزم أصحابه ، وكلموا محمدا في صرفه ، فصرفه ، ومنعهم من أخذ ماله .

ولإحدى عشرة خلت من ربيع الأول وصل عسكر المعتز الذي سيره إلى مقابل عسكر أخيه أبي أحمد عند عكبرا ، فأخرج إليهم ابن طاهر عسكرا ، فمضوا حتى بلغوا قطربل وبها كمين الأتراك ، فأوقع بهم ، ونشبت الحرب بينهم ، وقتل بينهم جماعة ، واندفع أصحاب محمد قليلا إلى باب قطربل ، والأتراك معهم ، فخرج الناس إليهم ، فدفعوا الأتراك حتى نحوهم ، ثم رجعوا إلى أهل بغداد فقتلوا منهم خلقا كثيرا ، وقتل من الأتراك أيضا خلق كثير ، ثم تقدم الأتراك إلى باب القطيعة ، فنقبوا السور ، فقتل أهل بغداد ( أول خارج منه ) ، وكان القتل ذلك اليوم أكثره في الأتراك ، والجراح بالسهام في أهل بغداد .

وندب عبد الله بن عبد الله بن طاهر الناس ، فخرجوا معه ، وأمر الموكل بباب قطربل [ ص: 219 ] ألا يدع منهزما يدخله ، ونشبت الحرب ، فانهزم أصحاب عبد الله ، وثبت أسد بن داود حتى قتل ، وكان إغلاق الباب على المنهزمين أشد من الأتراك ، فأخذوا منهم الأسرى ، وقتلوا فأكثروا ، وحملوا الأسرى والرؤوس إلى سامرا ، فلما قاربوا منها غطوا رؤوس الأسرى ، فلما رآهم أهل سامرا بكوا وضجوا ، وارتفعت أصواتهم ، وأصوات نسائهم ، فبلغ ذلك المعتز فكره أن تغلظ قلوب الناس عليه ، فأمر لكل أسير بدينار ، وأمر بالرؤوس فدفنت .

وقدم أبو الساج من طريق مكة لأربع بقين من ربيع الأول ، فخلع عليه .

وفي سلخ ربيع الأول جاء نفر من الأتراك إلى باب الشماسية ، ومعهم كتاب من المعتز إلى محمد بن عبد الله ، فاستأذنه أصحابه في أخذه ، فأذن لهم ، فإذا فيه ( تذكير محمد بما ) يجب عليه من حفظ العهد القديم ( وأن الواجب كان عليه أن يكون ) أول من يسعى في أمره ويؤكد خلافته . ( فما رد عليه محمد جواب الكتاب ) ، وكانت وقعة بينهم لسبع خلون من ربيع الآخر ، قتل من الأتراك سبع مائة ومن أصحاب محمد ثلاثمائة .

وفي منتصف ربيع الآخر أمر أبو الساج ، وعلي بن فراشة ، وعلي بن حفص ، بالمسير إلى المدائن ، فقال أبو الساج لمحمد بن عبد الله : إن كنت تريد الجد مع هؤلاء القوم فلا تفرق قوادك ، واجمعهم ، حتى تهزم هذا العسكر المقيم بإزائك ، فإذا فرغت منهم فما أقدرك على من بعدهم ! فقال : إن لي تدبيرا ، ويكفي الله إن شاء الله ، فقال أبو الساج : السمع والطاعة ! وسار إلى المدائن وحفر خندقها ، وأمده محمد بثلاثة آلاف فارس وألفي راجل .

[ ص: 220 ] وكتب المعتز إلى أخيه أبي أحمد يلومه للتقصير في قتال أهل بغداد ، فكتب إليه في الجواب :


لأمر المنايا علينا طريق     وللدهر فينا اتساع وضيق
وأيامنا عبرة للأنام فمنها البكور ومنها الطروق     ومنها هنات تشيب الوليد ويخذل فيها الصديق الصدوق
وفتنة دين لها ذروة تفوق العيون ،     وبحر عميق قتال متين
، وسيف عتيد وخوف شديد ،     وحصن وثيق وطول صياح
لداعي الصباح السلاح السلاح     فما يستفيق فهذا طريح وهذا جريح
وهذا حريق وهذا غريق     وهذا قتيل وهذا تليل وآخر يشدخه المنجنيق
هناك اغتصاب وثم انتهاب ودور خراب     وكانت تروق إذا ما شرعنا إلى مسلك وجدناه
قد سد عنا الطريق فبالله نبلغ ما نرتجي     وبالله ندفع ما لا نطيق

وهذه الأبيات لعلي بن أمية في فتنة الأمين والمأمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية