ذكر المقتدر قتل
لما اجتمعت العساكر على مؤنس بالموصل قالوا له : اذهب بنا إلى الخليفة فإن أنصفنا ، ( وأجرى أرزاقنا ) . وإلا قاتلناه ، فانحدر مؤنس من الموصل في شوال ، وبلغ خبره جند بغداذ ، فشغبوا وطلبوا أرزاقهم ، ففرق المقتدر فيهم أموالا كثيرة ، إلا أنه لم يسعهم ، وأنفذ أبا العلاء سعيد بن حمدان وصافيا البصري في خيل إلى سر من رأى ، وأنفذ أبا بكر محمد بن ياقوت في ألفي فارس ، ومعه الغلمان الحجرية ، إلى المعشوق .
فلما وصل مؤنس إلى تكريت أنفذ طلائعه ، فلما قربوا من المعشوق جعل العسكر الذين مع ابن ياقوت يتسللون ويهربون إلى بغداذ ، فلما رأى ذلك رجع إلى عكبرا ، وسار مؤنس ، فتأخر ابن ياقوت وعسكره ، وعادوا إلى بغداذ ، فنزل بباب الشماسية ونزل ابن ياقوت وغيره مقابلهم ، واجتهد المقتدر بابن خاله هارون بن غريب ليخرج ، فلم يفعل ، وقال : أخاف من عسكري ، فإن بعضهم أصحاب مؤنس ، وبعضهم قد انهزم [ ص: 770 ] أمس من ، فأخاف أن يسلموني وينهزموا عني ، فأنفذ إليه الوزير فلم يزل به حتى أخرجه ، وأشاروا على مرداويج المقتدر بإخراج المال منه ومن والدته ليرضي الجند ، ومتى سمع أصحاب مؤنس بتفريق الأموال تفرقوا عنه واضطر إلى الهرب ، فقال : لم يبق لي ولا لوالدتي جهة شيء .
وأراد المقتدر أن ينحدر إلى واسط ، ويكاتب العساكر من جهة البصرة ، والأهواز ، وفارس ، وكرمان ، وغيرها ، ويترك بغداذ لمؤنس إلى أن يجتمع عليه العساكر ، ويعود إلى قتاله ، فرده ابن ياقوت عن ذلك ، وزين له اللقاء ، وقوى نفسه بأن القوم متى رأوه عادوا بأجمعهم إليه ، فرجع إلى قوله وهو كاره .
( ثم أشار عليه بحضور الحرب ، فخرج وهو كاره ) ، وبين يديه الفقهاء والقراء معهم المصاحف مشهورة ، وعليه البردة والناس حوله ، فوقف على تل عال بعيد عن المعركة ، فأرسل قواد أصحابه يسألونه التقدم مرة بعد أخرى ، ( وهو واقف ) ، فلما ألحوا عليه تقدم من موضعه ، فانهزم أصحابه قبل وصوله إليهم ، وكان قد أمر فنودي : من جاء بأسير فله عشرة دنانير ، ومن جاء برأس فله خمسة دنانير فلما انهزم أصحابه لقيه علي بن بليق ، وهو من أصحاب مؤنس ، فترجل وقبل الأرض وقال له : إلى أين تمضي ؟ ارجع ، فلعن الله من أشار عليك بالحضور ! فأراد الرجوع ، فلقيه قوم من المغاربة والبربر ، فتركه علي معهم وسار عنه ، فشهروا عليه سيوفهم ، فقال : ويحكم أنا الخليفة ! فقالوا : قد عرفناك يا سفلة ، أنت خليفة إبليس ، تبذل في كل رأس خمسة دنانير ، وفي كل أسير عشرة دنانير ! وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض وذبحه بعضهم ، فقيل : إن علي بن بليق غمز بعضهم فقتله .
وكان المقتدر ثقيل البدن ، عظيم الجثة ، فلما قتلوه رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبرون ويلعنونه ، وأخذوا جميع ما عليه حتى سراويله ، وتركوه مكشوف العورة ، إلى أن مر به رجل من الأكرة ، فستره بحشيش ، ثم حفر له موضعه ، ودفن ، وعفي قبره .
[ ص: 771 ] وكان مؤنس في الراشدية لم يشهد الحرب ، فلما حمل رأس المقتدر إليه بكى ، ولطم وجهه ورأسه ، وقال : يا مفسدون ! ما هكذا أوصيتكم ، وقال : قتلتموه ، وكان هذا آخر أمره ، والله لنقتلن كلنا ، وأقل ما في الأمر أنكم تظهرون أنكم قتلتموه خطأ ، ولم تعرفوه .
وتقدم مؤنس إلى الشماسية ، وأنفذ إلى دار الخليفة من يمنعها من النهب ، ومضى عبد الواحد بن المقتدر ، وهارون بن غريب ، ومحمد بن ياقوت ، وابنا رائق إلى المدائن ، وكان ما فعله مؤنس سببا لجرأة أصحاب الأطراف ( على ) الخلفاء وطمعهم فيما لم يكن يخطر لهم على بال ، وانخرقت الهيبة وضعف أمر الخلافة حتى صار الأمر إلى ما نحكيه .
على أن المقتدر أهمل من أحوال الخلافة كثيرا ، وحكم فيها النساء والخدم ، وفرط في الأموال ، وعزل من الوزراء وولى مما أوجب طمع أصحاب الأطراف والنواب ، وخروجهم عن الطاعة .
وكان جملة ما أخرجه من الأموال ، تبذيرا وتضييعا في غير وجه ، نيفا وسبعين ألف ألف دينار ، سوى ما أنفقه في الوجوه الواجبة ، وإذا اعتبرت أحوال الخلافة في أيامه وأيام أخيه المكتفي ووالده المعتضد ، رأيت بينهم تفاوتا بعيدا ، وكانت مدة خلافته أربعا وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وستة عشر يوما ، وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة ونحوا من شهرين .