ذكر القبض على  مؤنس  وبليق   
في هذه السنة ، أول شعبان ، قبض  القاهر بالله  على  بليق  وابنه ،   ومؤنس المظفر     . 
وسبب ذلك أنه لما ذكر  ابن مقلة  لمؤنس  وبليق  ما هو عليه  القاهر  من التدبير في استئصالهم خافوه ، وحملهم الخوف على الجد في خلعه ، واتفق رأيهم على استخلاف  أبي أحمد بن المكتفي  وعقدوا له الأمر سرا ، وحلف له  بليق  وابنه  علي  ، والوزير  أبو علي بن مقلة  ،  والحسن بن هارون  ، وبايعوه ، ثم كشفوا الأمر  لمؤنس  فقال لهم : لست أشك في شر  القاهر  وخبثه ، ولقد كنت كارها لخلافته ، وأشرت  بابن المقتدر  ، فخالفتم وقد بالغتم الآن في الاستهانة به ، وما صبر على الهوان إلا من خبث طويته ليدبر   [ ص: 780 ] عليكم ، فلا تعجلوا ( على أمر حتى تؤنسوه وينبسط إليكم ، ثم فتشوا لتعرفوا من واطأه من القواد ومن الساجية والحجرية ، ثم اعملوا على ذلك ) ، فقال  علي بن بليق  ، (  والحسن بن هارون     ) : ما يحتاج إلى هذا التطويل ، فإن الحجبة لنا ، والدار في أيدينا وما يحتاج أن نستعين في القبض عليه بأحد لأنه بمنزلة طائر في قفص . 
وعملوا على معاجلته ، فاتفق أن سقط  بليق  من الدابة ، فاعتل ولزم منزله ، واتفق ابنه  علي  وأبو علي بن مقلة  وزينا  لمؤنس  خلع  القاهر  ، وهونا عليه الأمر ، فأذن لهما ، فاتفق رأيهما على أن يظهروا أن   أبا طاهر القرمطي  قد ورد الكوفة  في خلق كثير ، وأن  علي بن بليق  سائر إليه في الجيش ليمنعه عن بغداذ  ، فإذا دخل على  القاهر  ليودعه ويأخذ أمره فيما يفعل قبض عليه . 
( فلما اتفقا على ذلك جلس  ابن مقلة  ، وعنده الناس ، فقال  لأبي بكر بن قرابة     ) : أعلمت أن  القرمطي  قد دخل الكوفة  في ستة آلاف مقاتل بالسلاح التام ؟ قال : لا قال  ابن مقلة     : قد وصلنا كتب النواب بها بذلك ، فقال  ابن قرابة     : هذا كذب ومحال ، فإن في جوارنا إنسانا من الكوفة  ، وقد أتاه اليوم كتاب على جناح طائر تاريخه اليوم يخبر فيه بسلامته ، فقال له  ابن مقلة     : سبحان الله ، أنتم أعرف منا بالأخبار ؟ فسكت  ابن قرابة     . 
وكتب  ابن مقلة  إلى الخليفة يعرفه ذلك ، ويقول له : إني قد جهزت ( جيشا مع )  علي بن بليق  ليسير يومنا هذا ، والعصر يحضر إلى الخدمة ليأمره مولانا بما يراه ، فكتب  القاهر  في جوابه يشكره ، ويأذن له في حضور  ابن بليق  ، فجاءت رقعة  القاهر   وابن مقلة  نائم ، فتركوها ولم يوصلوها إليه ، فلما استيقظ عاد وكتب رقعة أخرى في المعنى ، فأنكر  القاهر  الحال ، حيث قد كتب جوابه ، وخاف أن يكون هناك مكر . 
 [ ص: 781 ] وهو في هذا إذ وصلت رقعة  طريف السبكري  يذكر أن عنده نصيحة وأنه قد حضر في زي امرأة لينهيها إليه ، فاجتمع به  القاهر  ، فذكر له جميع ما قد زعموا عليه ، وما فعلوه من التدبير ليقبض  ابن بليق  عليه إذا اجتمع به وأنهم قد بايعوا  أبا أحمد بن المكتفي  ، فلما سمع  القاهر  ذلك أخذ حذره وأنفذ إلى الساجية فأحضرهم متفرقين ، وكمنهم في الدهاليز ، ( والممرات ) ، والرواقات ، وحضر  علي بن بليق  بعد العصر ، وفي رأسه نبيذ ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف ، في طيارة ، وأمر جماعة من عسكره بالركوب إلى أبواب دار الخليفة ، وصعد من الطيارة ، وطلب الإذن ، فلم يأذن له  القاهر  ، فغضب وأساء أدبه ، وقال : لا بد من لقائه شاء أو أبى . 
وكان  القاهر  قد أحضر الساجية ، كما ذكرنا ، وهم عنده في الدار فأمرهم  القاهر  برده ، فخرجوا إليه وشتموه وشتموا أباه وشهروا سلاحهم وتقدموا إليه جميعهم ، ففر أصحابه عنه ، وألقى نفسه في الطيارة وعبر إلى الجانب الغربي واختفى من ساعته ، فبلغ  ابن مقلة  الخبر ، فاستتر واستتر  الحسن بن هارون  أيضا . 
فلما سمع  طريف  الخبر ركب في أصحابه ، وعليهم السلاح ، وحضروا دار الخليفة ووقف  القاهر  ، فعظم الأمر حينئذ على  ابن بليق  وجماعتهم وأنكر  بليق  ما جرى على ابنه ، وسب الساجية ، وقال : لا بد من المضي إلى دار الخليفة ، فإن كان الساجية فعلوا هذا بغير تقدم قابلتهم بما يستحقونه ، وإن كان بتقدم سألته عن سبب ذلك . 
فحضر دار الخليفة ومعه جميع القواد الذين بدار  مؤنس  ، فلم يوصله  القاهر  إليه ، وأمر بالقبض عليه وحبسه ، وأمر بالقبض على  أحمد بن زيرك  صاحب الشرطة   [ ص: 782 ] وحصل الجيش كلهم في الدار ، فأنفذ القاهر وطيب نفوسهم ، ووعدهم الزيادة ، وأنه يوقف هؤلاء على ذنوبهم ثم يطلقهم ويحسن إليهم ، فعادوا . 
وراسل  القاهر  مؤنسا  يسأله الحضور عنده ليعرض عليه ما رفع عليهم ليفعل ما يراه ، وقال : إنه عندي بمنزلة الوالد ، وما أحب أن أعمل شيئا إلا عن رأيه ، فاعتذر  مؤنس  عن الحركة ، ( ونهاه أصحابه عن الحضور ) عنده . 
فلما كان الغد أحضر  القاهر  طريفا السبكري  وناوله خاتمه ، وقال له : قد فوضت إلى ولدي  عبد الصمد  ما كان  المقتدر  فوضه إلى ابنه  محمد  ، وقلدتك خلافته ، ورئاسة الجيش ، وإمارة الأمراء ، وبيوت الأموال ، كما كان ذلك إلى  مؤنس  ، ويجب أن تمضي إليه وتحمله إلى الدار ، فإنه ما دام في منزله يجتمع إليه من يريد الشر ولا يأمن أن يولد شغل ، فيكون هاهنا مرفها ، ومعه من أصحابه من يخدمه على عادته . 
فمضى إلى دار  مؤنس  ، وعنده أصحابه في السلاح ، وهو قد استولى عليه الكبر والضعف ، فسأله أصحاب  مؤنس  عن الحال ، فذكر سوء صنيع  بليق  وابنه ، فكلهم سبهما ، وعرفهم ما أخذ لهم من الأمان والعهود ، فسكتوا ، ودخل إلى  مؤنس  وأشار عليه بالحضور عند  القاهر  ، وحمله عليه ، وقال له : إن تأخرت طمع ، ولو رآك نائما ما تجاسر أن يوقظك ، وكان موافقا على  مؤنس  وأصحابه لما نذكره ، فسار  مؤنس  إليه فلما دخل الدار قبض  القاهر  عليه وحبسه ولم يره . 
قال  طريف     : لما أعلمت  القاهر  بمجيء  مؤنس  ارتعد ، وتغيرت أحواله ، وزحف من صدر فراشه ، فخفته أن أكلمه في معناه ، وعلمت أنني قد أخطأت ، وندمت وتيقنت أنني   [ ص: 783 ] لاحق بالقوم عن قريب ، وذكرت قول  مؤنس     ( فيه إنه يعرفه بالهوج ، والشر والإقدام ، والجهل ) وكان أمر الله قدرا مقدورا وكانت وزارة  ابن مقلة  هذه تسعة أشهر وثلاثة أيام . 
واستوزر  القاهر  أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله  ، مستهل شعبان ، وخلع عليه ، وأنفذ  القاهر  وختم على دور  مؤنس  ،  وبليق  وابنه  علي  ،   وابن مقلة  ،  وأحمد بن زيرك  ،  والحسن بن هارون  ، ونقل دوابهم ، ووكل بحرمهم وأنفذ فاستقدم  عيسى المتطبب  من الموصل  ، وأمر بنقل ما في دار  ابن مقلة  وإحراقها ، فنهبت وأحرقت ، ونهبت دور المتعلقين بهم ، وظهر  محمد بن ياقوت  ، وقام بالحجبة ثم رأى كراهية  طريف السبكري  والساجية له ، فاختفى وهرب إلى أبيه بفارس  ، فكاتبه  القاهر  يلومه على عجلته بالهرب ، وقلده كور  الأهواز     . 
وكان السبب في ميل  طريف السبكري  ، والساجية ، والحجرية إلى  القاهر  ، ومواطأتهم على  مؤنس  وبليق  وابنه ما نذكره ، وهو أن  طريفا  كان قد أخذ قواد  مؤنس  وأعلاهم منزلة ، وكان  بليق  وابنه ممن يقبل يده ويخدمه فلما استخلف  القاهر بالله  تقدم  بليق  وابنه ، وحكما في الدولة كما ذكرناه وأهمل  ابن بليق  جانب  طريف  ، وقصده وعطله من أكثر أعماله ، فلما طالت عطلته استحيا منه  بليق  ، وخاف جانبه ، فعزم على استعماله على ديار مصر  ليقضي حقه ، ويبعده ، ومعه أعيان رفقائه ليأمنهم ، وقال ذلك للوزير   أبي علي بن مقلة  ، فرآه صوابا ، فاعتذر  بليق  إلى  طريف  لسبب عطلته ، وأعلمه بحديث مصر  فشكره ، وشكر الوزير أيضا ، فمنع  علي ابن بليق  من إتمامه ، وتولى هو العمل ، وأرسل إليه من يخلفه فيه ، فصار  طريف  عدوا يتربص بهم الدوائر . 
وأما الساجية فإنهم كانوا عدة  مؤنس  وعضده ، وساروا معه إلى الموصل  ، وعادوا معه إلى قتال  المقتدر  ، ووعدهم   مؤنس المظفر  بالزيادة فلما قتل  المقتدر  لم يروا لميعاده وفاء ، ثناه عنه  ابن بليق  ، واطرحهم  ابن بليق  أيضا ، وأعرض عنهم . 
 [ ص: 784 ] وكان من جملتهم خادم أسود اسمه  صندل  ، وكان من أعيانهم ، وكان خادم اسمه  مؤتمن  ، فباعه ، فاتصل  بالقاهر  قبل خلافته ، فلما استخلف قدمه وجعله لرسائله ، فلما بلي  القاهر  بابن بليق  وسوء معاملته كان كالغريق يتمسك بكل شيء ، وكان خبيرا بالدهاء والمكر ، فأمر مؤتمنا أن يقصد  صندلا  الساجي الذي باعه ، ويشكو من  القاهر  ، فإن رأى منه ردا لما يقوله أعلمه بحال  القاهر  وما يقاسي من  ابن بليق  وابنه ، وإن رأى منه خلاف ذلك سكت فجاء إليه وفعل ما أمره . 
فلما شكا قال له  صندل     : وفي أي شيء هو الخليفة حتى يعطيك ، ويوسع عليك ؟ إن فرج الله عنه من هذا المفسد احتجت أنا وغيري إليك ، ولله علي صوم وصدقة إن ملك الخليفة أمره ، واستراح ، وأراحنا من هذا الملعون ، فأعاد  المؤتمن  الحديث على  القاهر  ، فأرسل على يده هدية جميلة من طيب وغيره إلى زوجة  صندل  ، وقال له : تحمله إليها ، وزوجها غائب عنها ، وتقول لها إن الخليفة قسم فينا شيئا ، وهذا من نصيبي أهديته إليكم ، ففعل هذا ، فقبلته ثم عاد إليها من الغد وقال : أي شيء قال  صندل  لما رأى انبساطي عليكم ؟ فقالت : اجتمع هو وفلان ، وذكرت ستة نفر من أعيانهم ، ورأوا ما أهديت إلينا فاستعملوا منه ودعوا للخليفة . 
فبينما هو عندها إذ حضر زوجها فشكر  مؤتمنا  ، وسأله عن أحوال الخليفة ، فأثنى عليه ، ووصفه بالكرم ، وحسن الأخلاق ، وصلابته في الدين ، فقال  صندل  إن  ابن بليق  نسبه إلى قلة الدين ، ويرميه بأشياء قبيحة ، فحلف  مؤتمن  على بطلان ذلك ، وأن جميعه كذب . 
ثم أمر  القاهر  مؤتمنا أن يقصد زوجة  صندل  ، ويستدعيها إلى قهرمانة  القاهر  فتحضر متنكرة على أنها قابلة يأنس بها من عند  القاهر  ، لما كانوا  بدار ابن طاهر  وقد حضرت لحاجة بعض أهل الدار إليها ، ففعلت ذلك ، ودخلت الدار وباتت عندهم ، فحملها  القاهر  رسالة إلى زوجها ورفقائه ، وكتب إليهم رقعة بخطه يعدهم بالزيادة في الأقطاع والجاري ، وأعطاها لنفسها مالا ، فعادت إلى زوجها وأخبرته بما كان جميعه ، فوصل الخبر إلى  ابن بليق  أن امرأة من دار   ابن طاهر  دخلت إلى دار الخليفة ، فلهذا منع  ابن بليق  من دخول امرأة حتى تبصر وتعرف . 
 [ ص: 785 ] وكان للساجية قائد كبير اسمه  سيما  ، وكلهم يرجعون إلى قوله ، فاتفق  صندل  ومن معه على إعلام سيما بذلك إذ لا بد لهم منه ، وأعلموه برسالة  القاهر  إليهم ، فقال : هذا صواب ، والعاقبة فيه جميلة ، ولكن لا بد من أن يدخلوا في الأمر بعض هؤلاء القوم ، يعني أصحاب  بليق  ومؤنس  ، وليكن من أكابرهم ، فالتقوا على  طريف السبكري  ، وقالوا : هو أيضا متسخط فحضروا عنده وشكوا إليه ما هم فيه ، وقالوا : لو كان الأستاذ ، يعنون  مؤنسا  ، يملك أمره لبلغنا مرادنا ، ولكن قد عجز وضعف ، واستبد عليه  ابن بليق  بالأمور ، فوجدوا عنده من كراهتهم أضعاف ما أرادوا ، فأعلموه حينئذ حالهم فأجابهم إلى موافقتهم ، واستحلفهم أنه لا يلحق  مؤنسا  وبليقا  وابنه مكروه وأذى في أنفسهم وأبدانهم وأموالهم ، وإنما يلزم  بليق  وابنه بيوتهم ويكون  مؤنسا  على مرتبته لا يتغير ، فحلفوا على ذلك ، وحلف لهم على الموافقة وطلب خط  القاهر  بما طلب ، فأرسلوا إلى  القاهر  بما كان فكتب إليهم بما أرادوا وزاد بأن قال : إنه يصلي بالناس ، ويخطب أيام الجمع ، ويحج بهم ( ويغزو معهم ) ، ويقعد للناس ويكشف مظالمهم إلى غير ذلك من حسن السيرة . 
ثم إن طريفا اجتمع بجماعة من رؤساء الحجرية ، وكان  ابن بليق  قد أبعدهم عن الدار وأقام بها أصحابه ، فهم حنقون عليه ، فلما أعلمهم طريف الأمر أجابوه إليه ، فظهر شيء من هذا الحديث إلى  ابن مقلة  ،  وابن بليق  ، ولم يعلموا تفصيله ، فاتفقوا على أن يقبضوا على جماعة من قواد الساجية والحجرية ، فلم يقدموا عليهم خوف الفتنة . 
وكان  القاهر  قد أظهر مرضا من دماميل وغيرها ، فاحتجب عن الناس خوفا منهم ، فلم يكن يراه أحد إلا خواص خدمه من الأوقات النادرة فتعذر على  ابن مقلة  وابن بليق  الاجتماع به ليبلغوا منه ما يريدون ، فوضعا ما ذكرناه من أخبار القرامطة  ليظهر لهم ويفعلوا به ما أرادوا   [ ص: 786 ]   ( ولما قبض  القاهر  على  مؤنس  وجماعته ) استعمل  القاهر  على الحجبة  سلامة الطولوني  وعلى الشرطة  أبا العباس أحمد بن خاقان  ، واستوزر  أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله  ، وأمر بالنداء على المستترين ، وإباحة مال من أخفاهم وهدم داره ، وجد في طلب  أحمد بن المكتفي  ، فظفر به ، فبنى عليه حائطا وهو حي فمات ، وظفر  بعلي بن بليق  فقتله . 
				
						
						
