كانت أرض الطائف قديما لعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر . فلما كثر بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد . وكان بنو عامر يصيفون بالطائف ، ويشتون بأرضهم من نجد ، وكانت ثقيف حول الطائف . وقد اختلف الناس فيهم ، فمنهم من جعلهم من إياد فقال : ثقيف اسمه قسي بن نبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن معد ، ومنهم من جعلهم [ ص: 605 ] من هوازن فقال : هو قيس بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان .
فرأت ثقيف البلاد فأعجبهم نباتها وطيب ثمرها ، فقالوا لبني عامر : إن هذه الأرض لا تصلح للزرع ، وإنما هي أرض ضرع ، ونراكم على أن آثرتم الماشية على الغراس ، ونحن أناس ليست لنا مواش ، فهل لكم أن تجمعوا الزرع والضرع بغير مؤونة ؟ تدفعون إلينا بلادكم هذه فنثيرها ونغرسها ونحفر فيها الأطواء ولا نكلفكم مؤونة . نحن نكفيكم المؤونة والعمل ، فإذا كان وقت إدراك الثمر كان لكم النصف كاملا ، ولنا النصف بما عملنا .
فرغب بنو عامر في ذلك وسلموا إليهم الأرض ، فنزلت ثقيف الطائف واقتسموا البلاد وعملوا الأرض وزرعوها من الأعناب والثمار ، ووفوا بما شرطوا لبني عامر حينا من الدهر ، وكان بنو عامر يمنعون ثقيفا ممن أرادهم من العرب .
فلما كثرت ثقيف وشرفت حصنت بلادها وبنوا أسوارا على الطائف وحصنوه ، ومنعوا عامرا مما كانوا يحملونه إليهم عن نصف الثمار . وأراد بنو عامر أخذه منهم فلم يقدروا عليه فقاتلوهم فلم يظفروا ، وكانت ثقيف بطنين : الأحلاف وبني مالك ، وكان للأحلاف في هذا أثر عظيم ، ولم تزل تعتد بذلك على بني مالك فأقاموا كذلك .
ثم إن الأحلاف أثروا وكثرت خيلهم ، فحموا لها حمى من أرض بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن يقال له جلذان ، فغضب من ذلك بنو نصر وقاتلوهم عليه ، ولجت الحرب بينهم . وكان رأس بني نصر عفيف بن عوف بن عباد النصري ثم اليربوعي ، ورأس الأحلاف مسعود بن قعنب . فلما لجت الحرب بين بني نصر والأحلاف اغتنم ذلك بنو مالك ورئيسهم جندب بن عوف بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم من ثقيف لضغائن كانت بينهم وبين الأحلاف ، فحالفوا بني يربوع على الأحلاف .
فلما سمعت الأحلاف بذلك اجتمعوا . وكان أول قتال كان بين الأحلاف وبين بني مالك وحلفائهم من بني نصر يوم الطائف ، واقتتلوا قتالا شديدا ، فانتصر الأحلاف وأخرجوهم منه إلى واد من وراء الطائف يقال له لحب ، وقتل من بني مالك وبني يربوع مقتلة عظيمة في شعب من شعاب ذلك الجبل يقال له الأبان . ثم اقتتلوا بعد ذلك أياما [ ص: 606 ] مسميات ، منهن يوم غمر ذي كندة ، من نحو نخلة ، ومنهن يوم كرونا من نحو حلوان ، وصاح عفيف بن عوف اليربوعي في ذلك اليوم صيحة يزعمون أن سبعين حبلى منهم ألقت ما في بطنها ، فاقتتلوا أشد قتال ثم افترقوا . فسارت بنو مالك تبتغي الحلف من دوس وخثعم وغيرها على الأحلاف ، وخرجت الأحلاف إلى المدينة تبتغي الحلف من الأنصار على بني مالك ، فقدم مسعود بن معتب على أحيحة بن الجلاح أحد بني عمرو بن عوف من الأوس ، وكان أشرف الأنصار في زمانه ، فطلب منه الحلف ، فقال له أحيحة : والله ما خرج رجل من قومه إلى قوم قط بحلف أو غيره إلا أقر لأولئك القوم بشر مما أنف منه من قومه ، فقال له مسعود : إني أخوك ، وكان صديقا له ، فقال : أخوك الذي تركته وراءك فارجع إليه ، فانصرف عنه وزوده بسلاح وزاد ، وأعطاه غلاما كان يبني الآطام ، يعني الحصون ، بالمدينة ، فبنى لمسعود بن متعب أطما فكان أول أطم يبنى بالطائف ، ثم بنيت الآطام بعده بالطائف ، ولم يكن بعد ذلك بينهم حرب تذكر .
وقالوا في حربهم أشعارا كثيرة ، فمن ذلك قول محبر ، وهو ربيعة بن سفيان أحد بني عوف بن عقدة من الأحلاف :
وما كنت ممن أرث الشر بينهم ولكن مسعودا جناها وجندبا قريعي ثقيف أنشبا الشر بينهم
فلم يك عنها منزع حين أنشبا عناقا ضروسا بين عوف ومالك
شديدا لظاها تترك الطفل أشيبا مضرمة شبا أشبا وقودها
بأيديهما ما أورياها وأثقبا أصابت براء من طوائف مالك
وعوف بما جرا عليها وأجلبا كجمثورة جاءوا تخطوا مآبنا
إليهم وتدعو في اللقاء معتبا وتدعو بني عوف بن عقدة في الوغى
وتدعو علاجا والحليف المطيبا حبيبا وحيا من رباب كتائبا
وسعدا إذا الداعي إلى الموت ثوبا وقوما بمكروثاء شنت معتب
بغارتها فكان يوما عصبصبا
[ ص: 607 ] فأسقط أحبال النساء بصوته
عفيف إذا نادى بنصر فطربا
( عفيف هذا بضم العين وفتح الفاء ) .