ذكر ملك قلاع الهكارية وكواشى
وحكي عن بعض العلماء من الأكراد ممن له معرفة بأحوالهم أن أتابك زنكي لما [ ص: 53 ] ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء بن عبد الله صاحب قلعة آشب والجزيرة ونوشى ، فأرسل إلى أتابك زنكي من استحلفه له ، وحمل إليه مالا ، وحضر عند زنكي بالموصل فبقي مدة ثم مات ، فدفن بتل توبة .
ولما سار عن آشب إلى الموصل أخرج ولده أحمد بن أبي الهيجاء منها ; خوفا أن يتغلب عليها ، وأعطاه قلعة نوشى ، وأحمد هذا هو والد علي بن أحمد المعروف بالمشطوب ، من أكابر أمراء صلاح الدين بن أيوب بالشام .
ولما أخرجه أبوه من آشب استناب بها كرديا يقال له : باو الأرجي ، فلما مات أبو الهيجاء سار ولده أحمد بن نوشى إلى آشب ليملكها ، فمنعه باو وأراد حفظها لولد صغير لأبي الهيجاء اسمه علي ، فسار زنكي بعسكره فنزل على آشب وملكها .
وسبب ملكها أن أهلها نزلوا كلهم إلى القتال ، فتركهم زنكي حتى قاربوه ، واستجرهم حتى أبعدوا عن القلعة ، ثم عطف عليهم فانهزموا ، فوضع السيف فيهم ، فأكثر القتل والأسر ، وملك زنكي القلعة في الحال ، وأحضر جماعة من مقدمي الأكراد فيهم باو فقتلهم ، وعاد عنها إلى الموصل ، ثم سار عنها ، ففي غيبته أرسل نصير الدين جقر نائب زنكي ، وخرب آشب وخلى كهيجة ونوشى وقلعة الجلاب وهي قلعة العمادية ، وأرسل إلى قلعة الشعباني ، وفرح ، وكوشر ، والزعفران ، وألقى ، ونيروة ، وهي حصون المهرانية ، فحصرها فملك الجميع ، واستقام أمر الجبل والزوزان ، وأمنت الرعايا من الأكراد .
وأما باقي قلاع الهكارية جل صور ، وهرور ، والملاسي ، ومابرما ، ويابوخا ، وباكزا ، ونسباس ، فإن قراجة صاحب العمادية فتحها من مدة طويلة بعد قتل زنكي ، وقراجة هذا كان أميرا قد أقطعه زين الدين علي بلد الهكارية بعد قتل زنكي ، ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع ;فلهذا ذكرته هاهنا .
وحكى غير هذا بعض فضلاء الأكراد ، وخالف فيه فقال :
إن زنكي لما فتح قلعة آشب وخربها ، وبنى قلعة العمادية ، ولم يبق في الهكارية إلا صاحب جل صورا ، وصاحب هرور ، ولم يكن لهما شوكة يخاف منها ، عاد إلى الموصل فخافه أصحاب القلاع الجبلية ، فاتفق أن عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الربية ، وألقى ، وفرح ، [ ص: 54 ] وغيرها توفي ، وملكها بعده ولده علي ، وكانت والدته خديجة بنت الحسن أخت إبراهيم وعيسى - وهما من الأمراء - مع زنكي ، وكانا بالموصل ، فأرسلها ولدها علي إلى أخويها ، وطلبا له الأمان من زنكي ، وحلفاه له ففعل ، ونزل إلى خدمة زنكي ، وأقره على قلاعه ، واشتغل زنكي بفتح قلاع الهكارية ، وكان الشعباني بيد أمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر ، فأخذه منه ، وقربه منه لكبره وقلة أعماله .
وكان نصير الدين جقر يكره عليا صاحب الربية ، وغيرها ، فحسن لزنكي القبض عليه ، فأذن له في ذلك ، فقبض عليه ، ثم ندم زنكي على قبضه فأرسل إلى نصير الدين أن يطلقه فرآه قد مات ، قيل إن نصير الدين قتله .
ثم أرسل العسكر إلى قلعة الربية فنازلوها بغتة ، فملكوها في ساعة ، وأسروا كل من بها من ولد علي وأخواته ، وكانت والدة علي غائبة فلم توجد ، فلما سمع خديجة زنكي الخبر بفتح الربية سره ، وأمر أن تسير العساكر إلى باقي القلاع التي لعلي ، فسارت العساكر فحصروها ، فرأوها منيعة ، فراسلهم زنكي ، ووعدهم الإحسان ، فأجابوه إلى التسليم على شرط أن يطلق كل من في السجن منهم ، فلم يجبهم إلى ذلك إلا أن يسلموا أيضا قلعة كواشى ، فمضت خديجة والدة علي إلى صاحب كواشى ، واسمه خول وهرون ، وهو من المهرانية ، فسألته النزول عن كواشى ، فأجابها إلى ذلك ، وتسلم زنكي القلاع ، وأطلق الأسرى ، فلم يسمع بمثل هذا ، فقال : ينزل من مثل كواشى لقول امرأة فإما أن يكون أعظم الناس مروءة لا يرد من دخل بيته ، وإما أن يكون أقل الناس عقلا ، واستقامت ولاية الجبال .