الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر قتل الصالح بن رزيك ووزارة ابنه رزيك

في هذه السنة ، في شهر رمضان ، قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن [ ص: 285 ] رزيك الأرمني ، وزير العاضد العلوي ، صاحب مصر ، وكان سبب قتله أنه تحكم في الدولة التحكم العظيم ، واستبد بالأمر والنهي وجباية الأموال إليه ، لصغر العاضد ، ولأنه هو الذي ولاه ، ووتر الناس ، فإنه أخرج كثيرا من أعيانهم وفرقهم في البلاد ليأمن وثوبهم عليه ، ثم إنه زوج ابنته من العاضد فعاداه أيضا الحرم من القصر ، فأرسلت عمة العاضد الأموال إلى أمراء المصريين ، ودعتهم إلى قتله .

وكان أشدهم في ذلك إنسان يقال له : ابن الراعي ، فوقفوا له في دهليز القصر ، فلما دخل ضربوه بالسكاكين على دهش [ منه ] ، فجرحوه جراحات مهلكة ، إلا أنه حمل إلى داره وفيه حياة ، فأرسل إلى العاضد يعاتبه على الرضى بقتله مع أثره في خلافته ، فأقسم العاضد أنه لا يعلم بذلك ، ولم يرض به ، فقال : إن كنت بريئا ، فسلم عمتك إلي حتى أنتقم منها ، فأمر بأخذها ، فأرسل إليها ، فأخذها قهرا ، وأحضرت عنده ، فقتلها ، ووصى بالوزارة لابنه رزيك ، ولقب العادل ، فانتقل الأمر إليه بعد وفاة أبيه .

وللصالح أشعار حسنة بليغة تدل على فضل غزير ، فمنها في الافتخار :


أبى الله إلا أن يدوم لنا الدهر ويخدمنا في ملكنا العز والنصر     علمنا بأن المال تفنى ألوفه
ويبقى لنا من بعده الأجر     والذكر خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا
سحاب لديه البرق والرعد     والقطر قرانا إذا رحنا إلى الحرب مرة
يرانا ومن أضيافنا الذئب والنسر     كما أننا في السلم نبذل جودنا
ويرتع في إنعامنا العبد والحر

وهي طويلة .

وكان الصالح كريما فيه أدب ، وله شعر جيد ، وكان لأهل العلم عنده إنفاق ، [ ص: 286 ] ويرسل إليهم العطاء الكثير ، بلغه أن الشيخ أبا محمد بن الدهان النحوي البغدادي المقيم بالموصل قد شرح بيتا من شعره وهو هذا :


تجنب سمعي ما يقول العواذل     وأصبح لي شغل من الغزو شاغل

فجهز إليه هدية سنية ليرسلها إليه ، فقتل قبل إرسالها .

وبلغه أيضا أن إنسانا من أعيان الموصل قد أثنى عليه بمكة ، فأرسل إليه كتابا يشكره ومعه هدية .

وكان الصالح إماميا لم يكن على مذهب العلويين المصريين ، ولما ولي العاضد الخلافة ، سمع الصالح ضجة عظيمة ، فقال : ما الخبر ؟ فقيل : إنهم يفرحون بالخليفة ، فقال : كأني بهؤلاء الجهلة وهم يقولون ما مات الأول حتى استخلف هذا ، وما علموا أنني كنت من ساعة أستعرضهم استعراض الغنم .

قال عمارة : دخلت إلى الصالح قبل قتله بثلاثة أيام ، فناولني قرطاسا فيه بيتان من شعره وهما :


نحن في غفلة ونوم وللمو     ت عيون يقظانة لا تنام
قد رحلنا إلى الحمام سنينا     ليت شعري متى يكون الحمام

فكان آخر عهدي به .

وقال عمارة أيضا : ومن عجيب الاتفاق أنني أنشدت ابنه قصيدة أقول فيها :


أبوك الذي تسطو الليالي بحده     وأنت يمين إن سطا وشمال
لرتبته العظمى وإن طال عمره     إليك مصير واجب ومنال
تخالسك اللحظ المصون ودونها     حجاب شريف لا انقضا وحجال

[ ص: 287 ] فانتقل الأمر إليه بعد ثلاثة أيام .

التالي السابق


الخدمات العلمية