ذكر انهزام   نور الدين محمود  من الفرنج   
في هذه السنة انهزم   نور الدين محمود بن زنكي  من الفرنج  ، تحت حصن الأكراد  ، وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة  ، وسببها أن  نور الدين  جمع عساكره ودخل بلاد الفرنج  ونزل في البقيعة  تحت حصن الأكراد  ، محاصرا له وعازما على قصد طرابلس   [ ص: 302 ] ومحاصرتها ، فبينما الناس يوما في خيامهم ، وسط النهار ، لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج  من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد  ، وذلك أن الفرنج  اجتمعوا واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهارا ، فإنهم يكونون آمنين ، فركبوا من وقتهم ، ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم ، وساروا مجدين ، فلم يشعر بذلك المسلمون إلا وقد قربوا منهم ، فأرادوا منعهم ، فلم يطيقوا ذلك ، فأرسلوا إلى  نور الدين  يعرفونه الحال ، فرهقهم الفرنج  بالحملة ، فلم يثبت المسلمون ، وعادوا يطلبون معسكر المسلمين ، والفرنج  في ظهورهم ، فوصلوا معا إلى العسكر  النوري  ، فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل ، وأخذ السلاح إلا وقد خالطوهم ، فأكثروا القتل والأسر . 
وكان أشدهم على المسلمين  الدوقس الرومي  ، فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم  ، فقاتلوا محتسبين في زعمهم ، فلم يبقوا على أحد ، وقصدوا خيمة  نور الدين  وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه ، ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله ، فنزل إنسان كردي قطعها ، فنجانور الدين  ، وقتل الكردي ، فأحسن  نور الدين  إلى مخلفيه ، ووقف عليهم الوقوف . 
ونزل  نور الدين  على بحيرة قدس  بالقرب من حمص  ، وبينه وبين المعركة أربعة فراسخ ، وتلاحق به من سلم من العسكر ، وقال له بعضهم : ليس من الرأي أن تقيم ها هنا ، فإن الفرنج  ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا ، فنؤخذ ونحن على هذا الحال ، فوبخه وأسكته ، وقال : إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم ، ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام ، ثم أرسل إلى حلب  ودمشق  ، وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل ، فأعطى اللباس عوض ما أخذ منهم جميعه بقولهم ، فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة ، وكل من قتل أعطى أقطاعه لأولاده . 
وأما الفرنج  فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص  بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم ، فلما بلغهم نزول  نور الدين  بينها وبينهم قالوا : لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها . 
ولما رأى أصحاب  نور الدين  كثرة خرجه قال له بعضهم : إن لك في بلادك   [ ص: 303 ] إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية  والقراء ، وغيرهم ، فلو استعنت [ بها ] في هذا الوقت لكان أصلح ، فغضب من ذلك ، وقال : والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك ، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ، كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني ، وأنا نائم على فراشي ، بسهام لا تخطئ ، وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ ، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم ؟ 
ثم إن الفرنج  راسلوا  نور الدين  يطلبون منه الصلح ، فلم يجبهم ، وتركوا عند حصن الأكراد  من يحميه وعادوا إلى بلادهم . 
				
						
						
