قيل لما أراد الحسين المسير إلى الكوفة بكتب أهل العراق إليه أتاه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو بمكة فقال له : إني أتيتك لحاجة أريد ذكرها نصيحة لك ، فإن كنت ترى أنك مستنصحي قلتها وأديت ما علي من الحق فيها ، وإن ظننت أنك لا مستنصحي كففت عما أريد .
فقال له : قل ، فوالله ما أستغشك وما أظنك بشيء من الهوى . قال له : قد بلغني أنك تريد العراق ، وإني مشفق عليك ، إنك تأتي بلدا فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال ، وإنما الناس عبيد الدنيا والدرهم ، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه .
فقال له الحسين : جزاك الله خيرا يا ابن عم ، فقد علمت أنك مشيت بنصح وتكلمت بعقل ، ومهما يقض من أمر يكن ، أخذت برأيك أو تركته ، فأنت عندي أحمد مشير ، وأنصح ناصح .
قال : وأتاه فقال له : قد أرجف الناس أنك سائر إلى عبد الله بن عباس العراق ، فبين لي ما أنت صانع ؟ فقال له : قد أجمعت السير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى .
فقال له : فإني أعيذك بالله من ذلك ، خبرني ، رحمك الله ، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم ؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم ، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنما دعوك إلى ابن عباس
[ ص: 148 ] الحرب ، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك . فقال الحسين : فإني أستخير الله وأنظر ما يكون .
فخرج وأتاه ابن عباس ابن الزبير فحدثه ساعة ثم قال : ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم ، خبرني ما تريد أن تصنع ؟ فقال الحسين : لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة ، ولقد كتبت إلي شيعتي بها وأشراف الناس وأستخير الله .
فقال له ابن الزبير : أما لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها .
ثم خشي أن يتهمه فقال له : أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ها هنا لما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك .
فقال له الحسين : إن أبي حدثني أن لها كبشا به تستحل حرمتها ، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش .
قال : فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى .
قال : ولا أريد هذا أيضا
ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا ، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ندري ، جعلنا الله فداك ! قال : إنه يقول : أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس ، ثم قال له الحسين : والله لئن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل فيها ، ولأن أقتل خارجا منها بشبرين أحب إلي من أن أقتل خارجا منها بشبر ، وايم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم ! والله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت :
فقام ابن الزبير فخرج من عنده .
فقال الحسين : إن هذا ليس شيء من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز ، وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي فود أني خرجت حتى يخلو له .
قال : فلما كان من العشي أو من الغد أتاه فقال : يا ابن عم ، إني أتصبر ولا أصبر ، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال ، إن ابن عباس أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم ، أقم في هذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز ، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عاملهم وعدوهم ثم أقدم عليهم ، فإن أبيت [ ص: 149 ] إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا ، وهي أرض عريضة طويلة ، ولأبيك بها شيعة ، وأنت عن الناس في عزلة ، فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاءك ، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية .
فقال له الحسين : يا ابن عم إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق ، وقد أزمعت وأجمعت المسير .
فقال له : فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك فإني لخائف أن تقتل كما قتل ابن عباس عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه .
ثم قال له : لقد أقررت عين ابن عباس ابن الزبير بخروجك من الحجاز وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك ، والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علينا الناس أطعتني فأقمت ، لفعلت ذلك .
ثم خرج من عنده فمر ابن عباس بابن الزبير فقال : قرت عينك يا ابن الزبير ! ثم أنشد قائلا :
يا لك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري
هذا الحسين يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز .
قيل : وكان الحسين يقول : والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم المرأة .
قال : والفرم خرقة تجعلها المرأة في قبلها إذا حاضت .
ثم خرج الحسين يوم التروية ، فاعترضه رسل ، وهو أمير على عمرو بن سعيد بن العاص الحجاز مع أخيه ليزيد بن معاوية يحيى ، يمنعونه ، فأبى عليهم ومضى ، وتضاربوا بالسياط ، وامتنع الحسين وأصحابه وساروا فمروا بالتنعيم ، فرأى بها عيرا قد أقبلت من اليمن بعث بها بحير بن ريسان من اليمن إلى ، وكان عامله على يزيد بن معاوية اليمن ، وعلى العير الورس والحلل ، فأخذها الحسين وقال لأصحاب الإبل : من أحب [ ص: 150 ] منكم أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته ، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا أعطيناه نصيبه من الكراء ، فمن فارق منهم أعطاه حقه ، ومن سار معه أعطاه كراءه وكساه .
ثم سار ، فلما انتهى إلى الصفاح لقيه الشاعر فقال له : الفرزدق
أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب .
فقال له الحسين : بين لي خبر الناس خلفك .
قال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أمية ، والقضاء ينزل من السماء ، والله يفعل ما يشاء . فقال الحسين : صدقت ، لله الأمر يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته ، والتقوى سريرته .
قال : وأدرك الحسين كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد ، وفيه : أما بعد فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تقرأ كتابي هذا ، فإني مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، إن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالسير فإني في إثر كتابي ، والسلام .
وقيل : وقام عبد الله بن جعفر إلى فقال له : اكتب عمرو بن سعيد للحسين كتابا تجعل له الأمان فيه وتمنيه فيه البر والصلة واسأله الرجوع .
وكان عمرو عامل يزيد على مكة ، ففعل عمرو ذلك وأرسل الكتاب مع أخيه ومع يحيى بن سعيد عبد الله بن جعفر ، فلحقاه وقرآ عليه الكتاب وجهدا أن يرجع ، فلم يفعل ، وكان مما اعتذر به إليهما أن قال : إني رأيت رؤيا رأيت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرت فيها بأمر أنا ماض له ، علي كان أو لي .
فقالا : ما تلك الرؤيا ؟ قال : ما حدثت بها أحدا وما أنا محدث بها أحدا حتى ألقى ربي .
ولما بلغ ابن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين بن نمير التميمي
[ ص: 151 ] صاحب شرطته فنزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع . فلما بلغ الحسين الحاجز كتب إلى أهل الكوفة مع قيس بن مسهر الصيداوي يعرفهم قدومه ويأمرهم بالجد في أمرهم ، فلما انتهى قيس إلى القادسية أخذه الحصين فبعث به إلى ابن زياد ، فقال له ابن زياد : اصعد القصر فسب الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي .
فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، ابن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا رسوله إليكم وقد فارقته بالحاجر فأجيبوه ، ثم لعن ابن زياد وأباه واستغفر لعلي .
فأمر به ابن زياد فرمي من أعلى القصر فتقطع فمات .
ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب ، فإذا عليه عبد الله بن مطيع ، فلما رآه قام إليه فقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ! ما أقدمك ؟ فاحتمله فأنزله ، فأخبره الحسين ، فقال له عبد الله : أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا ، والله إنها لحرمة الإسلام [ تنتهك ] وحرمة قريش وحرمة العرب ، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية ! فأبى إلا أن يمضي .
وكان زهير بن القين البجلي قد حج ، وكان عثمانيا ، فلما عاد جمعهما الطريق ، وكان يساير الحسين من مكة إلا أنه لا ينزل معه ، فاستدعاه يوما الحسين فشق عليه ذلك ثم أجابه على كره ، فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين ثم قال لأصحابه : من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد ، وسأحدثكم حديثا ، غزونا بلنجر ففتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا وكان معنا فقال لنا : إذا أدركتم سيد شباب أهل سلمان الفارسي محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من [ ص: 152 ] الغنائم ، فأما أنا فأستودعكم الله ! ثم طلق زوجته وقال لها : الحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير .
ولزم الحسين حتى قتل معه .
وأتاه خبر قتل مسلم بن عقيل بالثعلبية فقال له بعض أصحابه : ننشدك إلا رجعت من مكانك فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف عليك أن يكونوا عليك ! فوثب بنو عقيل وقالوا : والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم ! فقال الحسين : لا خير في العيش بعد هؤلاء :
فقال له بعض أصحابه : إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع .
ثم ارتحلوا فانتهوا إلى زبالة ، وكان لا يمر بماء إلا اتبعه من عليه حتى انتهى إلى زبالة ، فأتاه خبر مقتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن بقطر ، وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله ، فأخذته خيل الحصين ، فسيره من القادسية إلى ابن زياد ، فقال له : اصعد فوق القصر والعن الكذاب ابن الكذاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيي .
فصعد فأعلم الناس بقدوم الحسين ولعن ابن زياد وأباه ، فألقاه من القصر فتكسرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له فذبحه فلما عيب ذلك عليه قال : إنما أردت أن أريحه . عبد الملك بن عمير اللخمي
قال بعضهم : لم يكن الذي ذبحه ولكنه رجل يشبه عبد الملك بن عمير عبد الملك .
فلما أتى الحسين خبر قتل أخيه من الرضاعة ومسلم بن عقيل أعلم الناس ذلك وقال : قد خذلنا شيعتنا ، فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منا ذمام .
فتفرقوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكة ، وإنما فعل ذلك لأنه علم أن الأعراب ظنوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله فأراد أن يعلموا علام يقدمون .
ثم سار حتى نزل بطن العقبة ، فلقيه رجل من العرب فقال له : أنشدك الله لما انصرفت فوالله ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف ، إن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مئونة القتال ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم لكان ذلك رأيا ، فأما على
[ ص: 153 ] هذه الحال التي تذكر فلا أرى أن تفعل .
فقال : إنه لا يخفى علي ما ذكرت ولكن الله ، عز وجل ، لا يغلب على أمره .
ثم ارتحل منها .