هذا كسيلة بن لمزم البربري كان قد أسلم لما ولي أبو المهاجر إفريقية وحسن إسلامه ، وهو من أكابر البربر وأبعدهم صوتا ، وصحب أبا المهاجر ، فلما ولي عقبة عرفه أبو المهاجر محل كسيلة وأمره بحفظه فلم يقبل واستخف به ، وأتى عقبة بغنم فأمر كسيلة بذبحها وسلخها مع السلاخين .
فقال كسيلة : هؤلاء فتياني وغلماني يكفونني المئونة .
فشتمه وأمره بسلخها ، ففعل ، فقبح أبو المهاجر هذا عند عقبة ، فلم يرجع ، فقال له : أوثق الرجل فإني أخاف عليك منه ! فتهاون به عقبة .
فأضمر كسيلة الغدر ، فلما كان الآن ورأى الروم قلة من مع عقبة أرسلوا إلى كسيلة وأعلموه حاله ، وكان في عسكر عقبة مضمرا للغدر ، وقد أعلم الروم ذلك وأطمعهم .
فلما راسلوه أظهر ما كان يضمره وجمع أهله وبني عمه وقصد عقبة ، فقال أبو المهاجر : عاجله قبل أن يقوى جمعه .
وكان أبو المهاجر موثقا في الحديد مع عقبة .
فزحف عقبة إلى كسيلة ، فتنحى كسيلة عن طريقه ليكثر جمعه ، فلما رأى أبو المهاجر ذلك تمثل بقول أبي محجن الثقفي :
كفى حزنا أن تمرغ الخيل بالقنا وأترك مشدودا علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وأغلقت
مصارع من دوني تصم المناديا
فبلغ عقبة ذلك فأطلقه ، فقال له : الحق بالمسلمين وقم بأمرهم وأنا أغتنم الشهادة . فلم يفعل وقال : وأنا أيضا أريد الشهادة .
فكسر عقبة والمسلمون أجفان سيوفهم وتقدموا إلى البربر وقاتلوهم ، فقتل المسلمون جميعهم لم يفلت منهم أحد ، وأسر محمد بن أوس الأنصاري في نفر يسير ، فخلصهم صاحب قفصة وبعث بهم إلى القيروان .
فعزم زهير بن قيس البلوي على القتال ، فخالفه وعاد إلى [ ص: 208 ] حنش الصنعاني مصر ، فتبعه أكثر الناس ، فاضطر زهير إلى العود معهم ، فسار إلى برقة وأقام بها .
وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية ، وقصد إفريقية ، وبها أصحاب الأنفال والذراري من المسلمين ، فطلبوا الأمان من كسيلة فآمنهم ودخل القيروان واستولى على إفريقية وأقام بها إلى أن قوي أمر فاستعمل على عبد الملك بن مروان إفريقية زهير بن قيس البلوي ، وكان مقيما ببرقة مرابطا .