[ ص: 254 ] ذكر الخوارج عبد الله بن الزبير وما كان منهم فراق
وفي هذه السنة فارق الخوارج الذين كانوا قدموا مكة عبد الله بن الزبير ، وكانوا قد قاتلوا معه أهل الشام .
وكان سبب قدومهم عليه أنهم لما اشتد عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال اجتمعوا فتذاكروا ذلك ، فقال لهم نافع بن الأزرق : إن الله قد أنزل عليكم الكتاب ، وفرض عليكم الجهاد ، واحتج عليكم بالبيان ، وقد جرد أهل الظلم فيكم السيوف فاخرجوا بنا إلى هذا الذي قد ثار بمكة فإن كان على رأينا جاهدنا معه ، وإن يكن على غير رأينا دافعناه عن البيت . وكان عسكر الشام قد سار نحو ابن الزبير . فسار الخوارج حتى قدموا على ابن الزبير ، فسر بمقدمهم وأخبرهم أنه على مثل رأيهم من غير تفتيش .
فقاتلوا معه أهل الشام حتى مات وانصرف أهل يزيد بن معاوية الشام .
ثم إنهم اجتمعوا وقالوا : إن الذي صنعتم أمس لغير رأي ، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس على مثل رأيكم ، وقد كان أمس يقاتلكم هو وأبوه وينادي : يا ثارات عثمان ! فأتوه واسألوه عن عثمان فإن برئ منه كان وليكم ، وإن أبى كان عدوكم .
فأتوه فسألوه ، فنظر فإذا أصحابه حوله قليل ، فقال : إنكم أتيتموني حين أردت القيام ، ولكن روحوا إلي العشية حتى أعلمكم .
فانصرفوا ، وبعث إلى أصحابه فجمعهم حوله بالسلاح ، وجاءت الخوارج وأصحابه حوله وعلى رأسه وبأيديهم العمد ، فقال ابن الأزرق لأصحابه : إن الرجل قد أزمع خلافكم ، فتقدم إليه نافع بن الأزرق وعبيدة بن هلال فقال عبيدة بعد حمد الله :
أما بعد فإن الله بعث محمدا يدعو إلى عبادته وإخلاص الدين له ، فدعا إلى ذلك فأجابه المسلمون ، فعمل فيهم بكتاب الله حتى قبضه الله واستخلف الناس أبا بكر واستخلف أبو بكر عمر ، فكلاهما عمل بكتاب الله وسنة نبيه ، ثم إن الناس استخلفوا عثمان ، فحمى الأحماء ، وآثر القربى ، واستعمل الفتى ورفع الدرة ووضع السوط ومزق الكتاب وضرب منكر الجور ، وآوى طريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضرب السابقين بالفضل وحرمهم ، وأخذ فيء الله الذي أفاء عليهم فقسمه في فساق [ ص: 255 ] قريش ومجان العرب ، فسارت إليه طائفة فقتلوه ، فنحن لهم أولياء ومن ابن عفان وأوليائه برآء ، فما تقول أنت يا ابن الزبير ؟ فقال : قد فهمت الذي ذكرت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو فوق ما ذكرت وفوق ما وصفت ، وفهمت ما ذكرت به أبا بكر وعمر ، وقد وفقت وأصبت ، وفهمت الذي ذكرت به عثمان ، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني ، كنت معه حيث نقم [ القوم ] عليه واستعتبوه فلم يدع شيئا إلا أعتبهم ، ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه يأمر فيه بقتلهم ، فقال لهم : ما كتبته فإن شئتم فهاتوا بينتكم فإن لم تكن حلفت لكم ، فوالله ما جاءوه ببينة ولا استحلفوه ووثبوا عليه فقتلوه ، وقد سمعت ما عتبته به ، فليس كذلك بل هو لكل خير أهل ، وأنا أشهدكم ومن حضرني أني ولي لابن عفان وعدو أعدائه فبرئ الله منكم .
وتفرق القوم فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي وعبد الله بن الصفار السعدي وعبد الله بن إباض وحنظلة بن بيهس وبنو الماحوز : عبد الله وعبيد الله والزبير من بني سليط بن يربوع ، وكلهم من تميم ، حتى أتوا البصرة ، وانطلق أبو طالوت ، من بني بكر بن وائل ، وأبو فديك عبد الله بن ثور بن قيس بن ثعلبة ، وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة ، فوثبوا بها مع أبي طالوت ، ثم أجمعوا بعد ذلك على نجدة بن عامر الحنفي وتركوا أبا طالوت .
فأما نافع وأصحابه فإنهم قدموا البصرة وهم على رأي أبي بلال ، واجتمعوا وتذاكروا فضيلة الجهاد ، فخرج نافع على ثلاثمائة ، وذلك عند وثوب الناس بابن زياد وكسر الخوارج باب السجن ، وخرجوا واشتغل الناس عنهم بحرب الأزد وربيعة وتميم ، فلما خرج نافع تبعوه ، واصطلح أهل البصرة على عبد الله بن الحارث ، فتجرد الناس للخوارج وأخافوهم ، فلحق نافع بالأهواز في شوال سنة أربع وستين ، وخرج من بقي منهم بالبصرة إلى ابن الأزرق إلا من لم يرد الخروج يومه ذلك ، منهم : عبد الله بن الصفار ، وعبد الله بن إباض ، ورجال معهما على رأيهما ، ونظر نافع فرأى أن ولاية من تخلف عن الجهاد من الذين قعدوا من الخوارج لا تحل له ، وأن من تخلف عنه لا نجاة له ، فقال لأصحابه ذلك ودعاهم إلى البراءة منهم وأنهم لا يحل لهم مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم ، [ ص: 256 ] ولا يجوز قبول شهادتهم وأخذ علم الدين عنهم ، ولا يحل ميراثهم ، ورأى قتل الأطفال والاستعراض ، وأن جميع المسلمين كفار مثل كفار العرب ، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل .
فأجابه إلى ذلك بعضهم وفارقه بعضهم ، وممن فارقه نجدة بن عامر ، وسار إلى اليمامة ، فأطاعه الخوارج الذين بها وتركوا أبا طالوت ، فكتب نافع إلى ابن إباض وابن الصفار يدعوهما ومن معهما إلى ذلك ، فقرأ ابن الصفار الكتاب ولم يقرأه على أصحابه خشية أن يتفرقوا ويختلفوا ، فأخذه ابن إباض فقرأه ، فقال : قاتله الله أي رأي رأى ! صدق نافع ، لو كان القوم مشركين كان أصوب الناس رأيا وكانت سيرته كسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المشركين ، ولكنه قد كذب فيما يقول ، إن القوم برآء من الشرك ولكنهم كفار بالنعم والأحكام ولا يحل لنا إلا دماؤهم ، وما سوى ذلك فهو حرام علينا .
فقال له ابن الصفار : برئ الله منك فقد قصرت ، وبرئ الله من ابن الأزرق فقد غلا .
فقال الآخر : برئ الله منك ومنه .
فتفرق القوم واشتدت شوكة ابن الأزرق وكثرت جموعه وأقام بالأهواز يجبي الخراج ويتقوى به ، ثم أقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر ، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة من أهل البصرة .
( عبيس بالعين المهملة المضمومة ، والباء الموحدة ، والياء المعجمة المثناة من تحت ، وبالسين المهملة . وعبيدة بن بلال بضم العين المهملة ، والباء الموحدة ) .