لما قربت محاربة الخوارج من البصرة أتى أهلها وسألوه أن يتولى حربهم ، فأشار الأحنف بن قيس لما يعلم فيه من الشجاعة والرأي والمعرفة بالحرب ، وكان قد قدم من عند بالمهلب بن أبي صفرة ابن الزبير وقد ولاه خراسان ، فقال : ما لهذا الأمر غير الأحنف المهلب .
فخرج إليه أشراف أهل البصرة فكلموه ، فأبى ، فكلمه ، فاعتذر بعهده على الحارث بن أبي ربيعة خراسان ، فوضع الحارث وأهل البصرة كتابا إليه عن ابن الزبير يأمره بقتال الخوارج وأتوه بالكتاب ، فلما قرأه قال : والله لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه وتقطعوني من بيت المال ما أقوي به من معي . فأجابوه إلى ذلك وكتبوا له به كتابا ، وأرسلوا إلى ابن الزبير فأمضاه ، فاختار المهلب من أهل البصرة ممن يعرف نجدته وشجاعته اثني عشر ألفا ، منهم : محمد بن واسع وعبد الله بن رياح الأنصاري ومعاوية بن قرة المزني ، وخرج وأبو عمران الجوني المهلب إلى الخوارج وهم عند الجسر الأصغر ، فحاربهم وهو في وجوه الناس وأشرافهم ، فدفعهم عن الجسر ، ولم يكن بقي إلا أن يدخلوا ، فارتفعوا إلى الجسر الأكبر إليهم في الخيل والرجال .
فلما رأوه قد قاربهم ارتفعوا فوق ذلك .
[ ص: 278 ] ولما بلغ حارثة بن بدر تأمير المهلب على قتال الأزارقة قال لمن معه [ من ] الناس :
كرنبوا ودولبوا حيث شئتم فاذهبوا
فأقبل بمن معه نحو البصرة فرد إلى الحارث بن أبي ربيعة المهلب ، وركب حارثة في سفينة في نهر دجيل يريد البصرة ، فأتاه رجل من تميم وعليه سلاحه والخوارج وراءه ، فصاح التميمي بحارثة يستغيث به ليحمله معه ، فقرب السفينة إلى شاطئ النهر ، وهو جرف ، فوثب التميمي إليها فغاصت بجميع من فيها فغرقوا .
وأما المهلب فإنه سار حتى نزل بالخوارج وهم بنهر تيرى وتنحوا عنه إلى الأهواز ، وسير المهلب إلى عسكرهم الجواسيس تأتيه بأخبارهم ، فلما أتاه خبرهم سار نحوهم واستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى ، فلما وصل الأهواز قاتلت الخوارج مقدمته ، وعليهم ابنه المغيرة بن المهلب بن أبي صفرة ، فجال أصحابه ثم عادوا .
فلما رأى الخوارج صبرهم ساروا عن سوق الأهاوز إلى مناذر ، فسار يريدهم ، فلما قاربهم سير الخوارج جمعا عليهم واقد مولى أبي صفرة إلى نهر تيرى وبها المعارك فقتلوه وصلبوه ، وبلغ الخبر إلى المهلب فسير ابنه المغيرة إلى نهر تيرى ، فأنزل عمه المعارك ودفنه وسكن الناس واستخلف بها جماعة وعاد إلى أبيه وقد نزل سولاف .
وكان المهلب شديد الاحتياط والحذر ، لا ينزل إلا في خندق وهو على تعبية ويتولى الحرس بنفسه ، فلما نازل الخوارج بسولاف ركبوا ووقفوا له واقتتلوا قتالا شديدا صبر فيه الفريقان ، ثم حملت الخوارج حملة صادقة على المهلب وأصحابه فانهزموا وقتل منهم ، وثبت المهلب وأبلى ابنه المغيرة يومئذ بلاء حسنا ظهر فيه أثره ، ونادى المهلب أصحابه فعادوا إليه معهم جمع كثير نحو أربعة آلاف فارس ، فلما كان الغد أراد القتال بمن معه فنهاه بعض أصحابه لضعفهم وكثرة الجراح فيهم ، فترك القتال وسار وقطع دجيل ونزل بالعاقول لا يؤتى إلا من جهة واحدة ، ( وفي يوم سولاف يقول : ابن قيس الرقيات
[ ص: 279 ]
ألا طرقت من آل مية طارقه على أنها معشوقة الدل عاشقه تميس وأرض السوس بيني وبينها
وسولاف رستاق حمته الأزارقه إذا نحن شتى صادفتنا عصابة
حرورية أضحت من الدين مارقه أجازت إلينا العسكرين كليهما
فباتت لنا دون اللحاف معانقه
وقال فيه بعض الخوارج :
وكائن تركنا يوم سولاف منهم أسارى وقتلى في الجحيم مصيرها
وأكثر الشعراء فيه .
فلما وصل المهلب إلى العاقول نزل فيه وأقام ثلاثة أيام ، ثم ارتحل وسار نحو الخوارج ، وهم بسلى وسلبرى ، فنزل قريبا منهم وكان كثيرا ما يفعل أشياء يحدث بها الناس لينشطوا إلى القتال فلا يرون لها أثرا ، حتى قال الشاعر :
أنت الفتى كل الفتى لو كنت تصدق ما تقول
وسماه بعضهم الكذاب ، وبعض الناس يظن أنه كذاب في كل حال ، وليس كذلك إنما كان يفعل ذلك مكايدة للعدو .
فلما نزل المهلب قريبا من الخوراج وخندق عليه ، وضع المسالح وأذكى العيون والحرس والناس على راياتهم ومواقفهم ، وأبواب الخندق محفوظة ، فكان الخوارج إذا أرادوا بياته وغرته وجدوا أمرا محكما فرجعوا ، فلم يقاتلهم إنسان كان أشد عليهم منه .
ثم إن الخوارج أرسلوا عبيدة بن هلال والزبير بن الماحوز في عسكر ليلا إلى عسكر المهلب ليبيتوه ، فصاحوا بالناس عن يمينهم ويسارهم فوجدوهم على تعبية قد [ ص: 280 ] حذروا ، فلم ينالوا منهم شيئا ، وأصبح المهلب فخرج إليهم في تعبية ، وجعل الأزد وتميما ميمنة ، وبكر بن وائل وعبد القيس ميسرة ، وأهل العالية في القلب ، وخرجت الخوارج وعلى ميمنتهم عبيدة بن هلال اليشكري ، وعلى ميسرتهم الزبير بن الماحوز ، وكانوا أحسن عدة وأكرم خيلا من أهل البصرة لأنهم مخروا الأرض وجردوها ما بين كرمان إلى الأهواز . فالتقى الناس واقتتلوا أشد قتال ، وصبر الفريقان عامة النهار ، ثم إن الخوارج شدت على الناس شدة منكرة ، فأجفلوا وانهزموا لا يلوي أحد على أحد ، حتى بلغت الهزيمة البصرة ، وخاف أهلها السباء .
وأسرع المهلب حتى سبق المنهزمين إلى مكان مرتفع ، ثم نادى : إلي عباد الله ! فاجتمع إليه ثلاثة آلاف أكثرهم من قومه من الأزد ، فلما رآهم رضي عدتهم فخطبهم وحثهم على القتال ووعدهم النصر وأمرهم أن يأخذ كل رجل منهم عشرة أحجار ، وقال : سيروا بنا نحو عسكرهم فإنهم الآن آمنون وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم ، فوالله إني لأرجو أن لا يرجع إليهم خيلهم حتى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم . فأجابوه ، فأقبل بهم راجعا ، فما شعرت الخوارج إلا والمهلب يقاتلهم في جانب عسكرهم ، فلقيهم عبد الله بن الماحوز والخوارج ، فرماهم أصحاب المهلب بالأحجار حتى أثخنوهم ثم طعنوهم بالرماح وضربوهم بالسيوف ، فاقتتلوا ساعة ، فقتل عبد الله بن الماحوز وكثير من أصحابه ، وغنم المهلب عسكرهم ، وأقبل من كان في طلب أهل البصرة راجعا ، وقد وضع لهم خيلا ورجالا تخطفهم وتقتلهم ، وانكفئوا راجعين مذلولين ، فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصبهان .
( قال بعض الخوارج لما رأى قتال أصحاب المهلب بالحجارة :
أتانا بأحجار ليقتلنا بها وهل تقتل الأقران ويحك بالحجر !
ولما فرغ المهلب منهم أقام مكانه حتى قدم على مصعب بن الزبير البصرة أميرا ، وعزل ، ( وفي هذا اليوم يقول الحارث بن أبي ربيعة الصلتان العبدي :
بسلى وسلبرى مصارع فتية كرام وقتلى لم توسد خدودها
وكتب المهلب إلى يعرفه ظفره ، فأرسل الحارث بن أبي ربيعة الحارث الكتاب إلى ابن الزبير بمكة ليقرأه على الناس هناك ، وكتب الحارث إلى المهلب :
( أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه نصر الله وظفر المسلمين ، فهنيئا لك يا أخا الأزد شرف الدنيا وعزها وثواب الآخرة وفضلها . فلما قرأ المهلب كتابه ضحك وقال : أما يعرفني إلا بأخي الأزد ! ما هو إلا أعرابي جاف ) .
وقيل : إن عثمان بن عبيد الله بن معمر قاتل الخوارج ونافع بن الأزرق قبل مسلم ، فقتل عثمان وانهزم أصحابه بعد أن قتل من الخوارج خلق كثير ، فسير إليهم من البصرة بعده حارثة بن بدر الغداني ، فلما رآهم عرف أنه لا طاقة له بهم فقال لأصحابه :
كرنبوا ودولبوا كيف شئتم فاذهبوا
يعني ما شاء ، ثم سار بعده مسلم بن عبيس ) .
وقيل : إن المهلب لما دفع الخوارج من البصرة إلى ناحية الأهواز أقام بقية سنته يجبي كور دجلة ، ورزق أصحابه ، وأتاه المدد من البصرة حتى بلغ أصحابه ثلاثين ألفا .
فعلى هذا يكون هزيمة الخوارج سنة ست وستين .