في هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من بني تميم ، بسبب قتلهم ابنه محمدا ، وقد تقدم ذكره ، فلما تفرقت بنو تميم بخراسان ، على ما تقدم ، أتى [ ص: 322 ] قصر فرتنا عدة من فرسانهم ما بين السبعين إلى الثمانين ، فولوا أمرهم عثمان بن بشر بن المحتفز المازني ، ومعه شعبة بن ظهير النهشلي ، وورد بن الفلق العنبري ، وزهير بن ذؤيب العدوي ، وجيهان بن مشجعة الضبي ، والحجاج بن ناشب العدوي ، ورقبة بن الحر ، في فرسان من تميم وشجعانهم ، فحاصرهم ابن خازم ، فكانوا يخرجون إليه فيقاتلونه ، ثم يرجعون إلى القصر .
فخرج ابن خازم يوما في ستة آلاف ، وخرج إليه أهل القصر ، فقال لهم عثمان بن بشر : ارجعوا فلن تطيقوه . فحلف زهير بن ذؤيب بالطلاق أنه لا يرجع حتى ينقض صفوفهم . فاستبطن نهرا قد يبس ، فلم يشعر به أصحاب عبد الله حتى حمل عليهم ، فحط أولهم على آخرهم ، واستدار وكر راجعا ، واتبعوه يصيحون به ، ولم يجسر أحد أن ينزل إليه حتى رجع إلى موضعه ، فحمل عليهم ، فأفرجوا له حتى رجع .
فقال ابن خازم لأصحابه : إذا طاعنتم زهيرا فاجعلوا في رماحكم كلاليب ، ثم علقوها في سلاحه . فخرج إليهم يوما فطاعنهم ، فأعلقوا فيه أربعة أرماح بالكلاليب ، فالتفت إليهم ليحمل عليهم ، فاضطربت أيديهم وخلوا رماحهم ، فعاد يجر أربعة أرماح حتى دخل القصر .
فأرسل ابن خازم إلى زهير يضمن له مائة ألف وميسان طعمة ليناصحه ، فلم يجبه . فلما طال الحصار عليهم أرسلوا إلى ابن خازم ليمكنهم من الخروج ليتفرقوا ، فقال : لا إلا على حكمي ، فأجابوا إلى ذلك . فقال زهير : ثكلتكم أمهاتكم ! والله ليقتلنكم عن آخركم ، وإن طبتم بالموت نفسا فموتوا كراما ، اخرجوا بنا جميعا ، فإما أن تموتوا كراما ، وإما ينجو بعضكم ويهلك بعضكم ، وايم الله لئن شددتم عليهم شدة صادقة ليفرجن لكم ، فإن شئتم كنت أمامكم ، وإن شئتم كنت خلفكم . فأبوا عليه . فقال : سأريكم . ثم خرج هو ورقبة بن الحر وغلام تركي وابن ظهير ، فحملوا على القوم حملة منكرة ، فأفرجوا لهم ، فمضوا ، فأما زهير فرجع ونجا أصحابه .
فلما رجع زهير إلى من بالقصر قال : قد رأيتم ، أطيعوني . قالوا : إنا نضعف عن هذا ونطمع في الحياة . فقال : لا أكون أعجزكم عند الموت . فنزلوا على حكم ابن [ ص: 323 ] خازم ، فأرسل إليهم فقيدهم وحملوا إليه رجلا رجلا ، فأراد أن يمن عليهم فأبى عليه ابنه موسى وقال له : إن عفوت عنهم قتلت نفسي ، فقتلهم إلا ثلاثة : أحدهم الحجاج بن ناشب ، فشفع فيه بعض من معه ، فأطلقه ، والآخر جيهان بن مشجعة الضبي الذي ألقى نفسه على محمد بن عبد الله ، كما تقدم ، والآخر رجل من بني سعد من تميم ، وهو الذي رد الناس عن ابن خازم يوم لحقوه ، وقال : انصرفوا عن فارس مضر .
وقال : ولما أرادوا حمل زهير بن ذؤيب وهو مقيد أبى ، واعتمد على رمحه فوثب الخندق ، ثم أقبل إلى ابن خازم يحجل في قيوده ، فجلس بين يديه ، فقال له ابن خازم : كيف شكرك إن أطلقتك وأطعمتك ميسان ؟ قال : لو لم تصنع بي إلا حقن دمي لشكرتك . فلم يمكنه ابنه موسى من إطلاقه ، فقال له أبوه : ويحك نقتل مثل زهير ! من لقتال عدو المسلمين ؟ من لحمى نساء العرب ؟ فقال : والله لو شركت في دم أخي لقتلتك ! فأمر بقتله . فقال زهير : إن لي حاجة ، لا تقتلني ويخلط دمي بدماء هؤلاء اللئام ، فقد نهيتهم عما صنعوا ، وأمرتهم أن يموتوا كراما ويخرجوا عليكم مصلتين ، وايم الله لو فعلوا لأذعروا بنيك هذا ، وشغلوه بنفسه عن طلب ثأر أخيه ، فأبوا ، ولو فعلوا ما قتل منهم رجل حتى يقتل رجالا . فأمر به ابن خازم فقتل ناحية .
فلما بلغ الحريش قتلهم قال :
أعاذل إني لم ألم في قتالهم وقد عض سيفي كبشهم ثم صمما أعاذل ما وليت حتى تبددت
رجال وحتى لم أجد متقدما أعاذل أفناني السلاح ، ومن يطل
مقارعة الأبطال يرجع مكلما أعيني إن أنزفتما الدمع فاسكبا
دما لازما لي دون أن تسكبا دما أبعد زهير وابن بشر تتابعا
وورد أرجي في خراسان مغنما أعاذل كم من يوم حرب شهدته
أكر إذا ما فارس السوء أحجما
يعني زهير بن ذؤيب ، وابن بشر هو عثمان ، وورد بن الفلق .