لما رأت تغلب إلحاح عمير بن الحباب عليها جمعت حاضرتها وباديتها ، وساروا إلى الحشاك ، وهو تل قريب من الشرعبية ، وإلى جنبه براق ، ودلف إليه عمير في قيس ومعه زفر بن الحارث الكلائي وابنه الهذيل بن زفر ، وعلى تغلب ابن هوبر ، واقتتلوا عند تل الحشاك أشد قتال وأبرحه ، حتى جن عليهم الليل ، ثم تفرقوا واقتتلوا من الغد إلى الليل ، ثم تحاجزوا .
وأصبحت تغلب في اليوم الثالث ، فتعاقدوا أن لا يفروا ، فلما رأى عمير حدهم ، وأن نساءهم معهم قال لقيس : يا قوم ، أرى لكم أن تنصرفوا عن هؤلاء ، فإنهم مستقتلون ، فإذا اطمأنوا وصاروا إلى سرحهم وجهنا إلى كل قوم منهم من يغير عليهم . فقال له عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي : قتلت فرسان قيس أمس وأول أمس ، ثم ملئ سحرك وجبنت ! ويقال : إن عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري قال له ذلك ، وكان أتاه منجدا ، فغضب عمير وقال : كأني بك وقد حمس الوغى أول فار ! فنزل عمير وجعل يقاتل راجلا وهو يقول :
أنا عمير وأبو المغلس قد أحبس القوم بضنك فاحبس
[ ص: 371 ] وانهزم زفر يومئذ ، وهو اليوم الثالث ، فلحق بقرقيسيا ، وذلك أنه بلغه أن قد عزم على الحركة إليه عبد الملك بن مروان بقرقيسيا ، فبادر للتأهب ، وقيل : إنه ادعى ذلك حين فر اعتذارا ، وانهزمت قيس وركبت تغلب ومن معها أكتافهم يقولون : أما تعلمون أن تغلب تغلب ؟
وشد على عمير جميل بن قيس من بني كعب بن زهير فقتله ، وقيل : بل تغاوى على عمير غلامان من بني تغلب فرمياه بالحجارة ، وقد أعيا فأثخناه ، وكر عليه ابن هوبر فقتله .
وأصابت ابن هوبر يومئذ جراحة ، فلما انقضت الحرب أوصى بني تغلب بأن يولوا أمرهم مراد بن علقمة الزهيري .
وقيل : خرج ابن هوبر في اليوم الثاني من أيامهم هذه الثلاثة ، وأوصى أن يولوا أمرهم مرادا ، ومات من ليلته ، وكان مراد رئيسهم في اليوم الثالث ، فعبأهم على راياتهم ، وأمر كل بني أب أن يجعلوا نساءهم خلفهم ، فلما أبصرهم عمير قال ما تقدم ذكره ، قال الشاعر :
أرقت بأثناء الفرات وشفني نوائح أبكاها قتيل ابن هوبر
ولم تظلمي إن نحت أم مغلس قتيل النصارى في نوائح حسر
وقال بعض الشعراء ينكر قتل ابن هوبر عميرا :
وإن عميرا يوم لاقته تغلب قتيل جميل لا قتيل ابن هوبر
وكثر القتل يومئذ في بني سليم وغني خاصة ، وقتل من قيس أيضا يومئذ بشر كثير ، وبعثت بنو تغلب رأس عمير بن الحباب إلى عبد الملك بن مروان بدمشق ، فأعطى الوفد وكساهم . فلما صالح عبد الملك زفر بن الحارث ، واجتمع الناس عليه قال الأخطل
: بني أمية قد تناضلت دونكم أبناء قوم هم آووا وهم نصروا
وقيس عيلان حتى أقبلوا رقصا فبايعوا لك قسرا بعدما قهروا
[ ص: 372 ] ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم وقيس عيلان من أخلاقها الضجر
في أبيات كثيرة .
فلما قتل عمير بن الحباب وقف رجل على أسماء بن خارجة الفزاري بالكوفة فقال : قتلت بنو تغلب عمير بن الحباب . فقال : لا بأس ، إنما قتل الرجل في ديار القوم مقبلا غير مدبر ، ثم قال :
يدي رهن على سليم بغارة تشيب لها أصداغ بكر بن وائل
وتترك أولاد الفدوكس عالة يتامى أيامى نهزة للقبائل