لما سار قطري إلى طبرستان وأقام عبد ربه الكبير بكرمان نهض إليهم المهلب ، فقاتلوه قتالا شديدا ، وحصرهم بجيرفت ، وكرر قتالهم وهو لا ينال منهم حاجته . ثم إن الخوارج طال عليهم الحصار فخرجوا من جيرفت بأموالهم وحرمهم ، فقاتلهم المهلب قتالا شديدا حتى عقرت الخيل ، وتكسرالسلاح ، وقتل الفرسان ، فتركهم ، فساروا ، [ ص: 470 ] ودخل المهلب جيرفت ، ثم سار يتبعهم إلى أن لحقهم على أربعة فراسخ من جيرفت ، فقاتلهم من بكرة إلى نصف النهار وكف عنهم ، وأقام عليهم .
ثم إن عبد ربه جمع أصحابه وقال : يا معشر المهاجرين ! إن قطريا ومن معه هربوا ، طلب البقاء ولا سبيل إليه ، فالقوا عدوكم وهبوا أنفسكم لله .
ثم عاد للقتال ، فاقتتلوا قتالا شديدا أنساهم ما قبله ، فبايع جماعة من أصحاب المهلب على الموت ، ثم ترجلت الخوارج وعقروا دوابهم ، واشتد القتال وعظم الخطب حتى قال المهلب : ما مر بي مثل هذا . ثم إن الله - تعالى - أنزل نصره على المهلب وأصحابه ، وهزم الخوارج وكثر القتلى فيهم ، وكان فيمن قتل عبد ربه الكبير ، وكان عدد القتلى أربعة آلاف قتيل ، ولم ينج منهم إلا قليل ، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا ; لأنهم كانوا يسبون نساء المسلمين . وقال الطفيل بن عامر بن واثلة يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه :
لقد مس منا عبد رب وجنده عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم سما لهم بالجيش حتى أزاحهم
بكرمان عن مثوى من الأرض ناعم وما قطري الكفر إلا نعامة
طريد يدوي ليله غير نائم إذا فر منا هاربا كان وجهه
طريقا سوى قصد الهدى والمعالم فليس بمنجيه الفرار وإن جرت
به الفلك في لج من البحر دائم
وهي أكثر من هذا تركناها لشهرتها .
وأحسن الحجاج إلى أهل البلاء وزادهم ، وسير المهلب إلى الحجاج مبشرا ، فلما دخل عليه أخبره عن الجيش وعن الخوارج ، وذكر حروبهم ، وأخبره عن بني المهلب فقال : المغيرة فارسهم وسيدهم ، وكفى بيزيد فارسا شجاعا ، وجوادهم وسخيهم قبيصة ، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدركة ، وعبد الملك سم ناقع ، وحبيب موت زعاف ، ومحمد ليث غاب ، وكفاك بالمفضل نجدة . قال : فأيهم كان أنجد ؟ قال : كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها . فاستحسن قوله وكتب إلى المهلب يشكره ، ويأمره أن يولي كرمان من يثق به ، ويجعل فيها من يحميها ويقدم إليه . فاستعمل على كرمان يزيد ابنه ، وسار إلى الحجاج ، فلما قدم عليه أكرمه وأجلسه إلى جانبه وقال : يا أهل العراق ، أنتم عبيد المهلب . ثم قال له : أنت كما قال لقيط بن يعمر الإيادي في صفة أمراء الجيوش : [ ص: 471 ]
وقلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ولا إذا عض مكروه به خشعا
مسهد النوم تعنيه ثغوركم يروم منها إلى الأعداء مطلعا
ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره يكون متبعا طورا ومتسعا
وليس يشغله مال يثمره عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا
حتى استمرت على شزر مريرته مستحكم السن لا قحما ولا ضرعا
وهي قصيدة طويلة هذا هو الأجود منها .