فصل الحكم الثاني : المستفاد من هذه السنة أن
nindex.php?page=treesubj&link=12985_12976لبن الفحل يحرم ، وأن التحريم ينتشر منه كما ينتشر من المرأة ، وهذا هو الحق الذي لا يجوز أن يقال بغيره ، وإن خالف فيه من خالف من الصحابة ومن بعدهم ، فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع ويترك ما خالفها لأجلها ، ولا تترك هي لأجل قول أحد كائنا من كان . ولو تركت السنن لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له ، أو لتأويلها ، أو غير ذلك لترك سنن كثيرة جدا وتركت الحجة إلى غيرها ، وقول من يجب اتباعه إلى قول من لا يجب اتباعه ، وقول المعصوم إلى قول غير المعصوم ، وهذه بلية ، نسأل الله العافية منها ، وأن لا نلقاه بها يوم القيامة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش : كان
عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأسا حتى أتاهم
nindex.php?page=showalam&ids=14152الحكم بن عتيبة بخبر
أبي القعيس ، يعني : فتركوا قولهم ورجعوا عنه ، وهكذا يصنع أهل العلم إذا أتتهم السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجعوا إليها وتركوا قولهم بغيرها .
قال الذين لا يحرمون بلبن الفحل : إنما ذكر الله سبحانه في كتابه التحريم بالرضاعة من جهة الأم ، فقال (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=23وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ) [ النساء : 23 ] واللام : للعهد ترجع إلى الرضاعة المذكورة وهي رضاعة الأم ، وقد قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ]
[ ص: 503 ] فلو أثبتنا التحريم بالحديث لكنا قد نسخنا القرآن بالسنة ، وهذا - على أصل من يقول : الزيادة على النص نسخ - ألزم ، قالوا : وهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم أعلم الأمة بسنته وكانوا لا يرون التحريم به ، فصح عن
أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمه
nindex.php?page=showalam&ids=170زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين أرضعتها
nindex.php?page=showalam&ids=64أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - امرأة
nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير بن العوام ، قالت
زينب : وكان
الزبير يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ بقرن من قرون رأسي ويقول : أقبلي علي فحدثيني ، أرى أنه أبي وما ولد منه فهم إخوتي ، ثم إن
عبد الله بن الزبير أرسل إلي يخطب
أم كلثوم ابنتي على
حمزة بن الزبير ، وكان
حمزة للكلبية ، فقالت لرسوله : وهل تحل له ؟ وإنما هي ابنة أخته ، فقال
عبد الله : إنما أردت بهذا المنع من قبلك . أما ما ولدت
أسماء فهم إخوتك ، وما كان من غير أسماء فليسوا لك بإخوة ، فأرسلي فاسألي عن هذا ، فأرسلت فسألت ، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون فقالوا لها : إن الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئا فأنكحيها إياه ، فلم تزل عنده حتى هلك عنها .
قالوا : ولم ينكر ذلك الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا : ومن المعلوم أن الرضاعة من جهة المرأة لا من الرجل .
قال الجمهور : ليس فيما ذكرتم ما يعارض السنة الصحيحة الصريحة ، فلا يجوز العدول عنها . أما القرآن فإنه بين أمرين : إما أن يتناول الأخت من الأب من الرضاعة فيكون دالا على تحريمها ، وإما أن لا يتناولها فيكون ساكتا عنها ، فيكون تحريم السنة لها تحريما مبتدءا ومخصصا لعموم قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وأحل لكم ما وراء ذلكم ) [ النساء : 24 ] والظاهر يتناول لفظ الأخت لها ، فإنه سبحانه عمم لفظ الأخوات من الرضاعة ، فدخل فيه كل من أطلق عليها أخته ، ولا يجوز أن يقال : إن أخته من أبيه من الرضاعة ليست أختا له ، (
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة [ ص: 504 ] - رضي الله عنها - : ائذني لأفلح ؛ فإنه عمك ) ، فأثبت العمومة بينها وبينه بلبن الفحل وحده ، فإذا ثبتت العمومة بين المرتضعة وبين أخي صاحب اللبن ، فثبوت الأخوة بينها وبين ابنه بطريق الأولى أو مثله .
فالسنة بينت مراد الكتاب لا أنها خالفته ، وغايتها أن تكون أثبتت تحريم ما سكت عنه ، أو تخصيص ما لم يرد عمومه .
وأما قولكم : إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون التحريم بذلك فدعوى باطلة على جميع الصحابة ، فقد صح عن
علي - رضي الله عنه - إثبات التحريم به ، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في " صحيحه " أن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس سئل عن
nindex.php?page=treesubj&link=12976رجل كانت له امرأتان أرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما أيحل أن ينكحها ؟ فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : لا ، اللقاح واحد ، وهذا الأثر الذي استدللتم به صريح عن
الزبير أنه كان يعتقد أن
زينب ابنته بتلك الرضاعة ، وهذه
عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - كانت تفتي : أن لبن الفحل ينشر الحرمة ، فلم يبق بأيديكم إلا
عبد الله بن الزبير ، وأين يقع من هؤلاء .
وأما الذين سألتهم فأفتوها بالحل فمجهولون غير مسمين ، ولم يقل الراوي : فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم متوافرون ، بل لعلها أرسلت فسألت من لم تبلغه السنة الصحيحة منهم فأفتاها بما أفتاها به
عبد الله بن الزبير ، ولم يكن الصحابة إذ ذاك متوافرين
بالمدينة ، بل كان معظمهم وأكابرهم
بالشام والعراق ومصر .
وأما قولكم : إن الرضاعة إنما هي من جهة الأم ، فالجواب أن يقال : إنما اللبن للأب الذي ثار بوطئه ، والأم وعاء له ، وبالله التوفيق .
فإن قيل : فهل تثبت أبوة صاحب اللبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة ، أو
[ ص: 505 ] ثبوت أبوته فرع على ثبوت أمومة المرضعة ؟
قيل : هذا الأصل فيه قولان للفقهاء ، وهما وجهان في مذهب
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، وعليه مسألة من
nindex.php?page=treesubj&link=12976_12908له أربع زوجات فأرضعن طفلة كل واحدة منهن رضعتين فإنهن لا يصرن أما لها ؛ لأن كل واحدة منهن لم ترضعها خمس رضعات . وهل يصير الزوج أبا للطفلة ؟ فيه وجهان . أحدهما : لا يصير أبا كما لم تصر المرضعات أمهات ، والثاني وهو الأصح : يصير أبا لكون الولد ارتضع من لبنه خمس رضعات ، ولبن الفحل أصل بنفسه غير متفرع على أمومة المرضعة ، فإن الأبوة إنما تثبت بحصول الارتضاع من لبنه لا لكون المرضعة أمه ، ولا يجيء هذا على أصلي
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ومالك فإن عندهما قليل الرضاع وكثيره محرم ، فالزوجات الأربع أمهات للمرتضع ، فإذا قلنا بثبوت الأبوة - وهو الصحيح - حرمت المرضعات على الطفل ؛ لأنه ربيبهن وهن موطوآت أبيه ، فهو ابن بعلهن . وإن قلنا : لا تثبت الأبوة ، لم يحرمن عليه بهذا الرضاع .
وعلى هذه المسألة : ما لو كان
nindex.php?page=treesubj&link=12908لرجل خمس بنات فأرضعن طفلا كل واحدة رضعة لم يصرن أمهات له . وهل يصير الرجل جدا له ، وأولاده الذين هم إخوة المرضعات أخوالا له وخالات ؟ على وجهين أحدهما : يصير جدا وأخوهن خالا ؛ لأنه قد كمل المرتضع خمس رضعات من لبن بناته فصار جدا ، كما لو كان المرتضع بنتا واحدة . وإذا صار جدا كان أولاده الذين هم إخوة البنات أخوالا وخالات ، لأنهن إخوة من كمل له منهن خمس رضعات فنزلوا بالنسبة إليه منزلة أم واحدة ، والآخر : لا يصير جدا ولا أخواتهن خالات ؛ لأن كونه جدا فرع على كون ابنته أما ، وكون أخيها خالا فرع على كون أخته أما ، ولم يثبت الأصل فلا يثبت فرعه ، وهذا الوجه أصح في هذه المسألة بخلاف التي قبلها ؛ فإن ثبوت الأبوة فيها لا يستلزم ثبوت الأمومة على الصحيح . والفرق بينهما : أن الفرعية متحققة في هذه المسألة بين المرضعات وأبيهن فإنهن بناته ، واللبن ليس له ، فالتحريم هنا بين المرضعة وابنها ، فإذا لم تكن أما لم يكن أبوها جدا ،
[ ص: 506 ] بخلاف تلك ، فإن التحريم بين المرتضع وبين صاحب اللبن ، فسواء ثبتت أمومة المرضعة أو لا ، فعلى هذا إذا قلنا : يصير أخوهن خالا ، فهل تكون كل واحدة منهن خالة له ؟ فيه وجهان . أحدهما : لا تكون خالة ؛ لأنه لم يرتضع من لبن أخواتها خمس رضعات فلا تثبت الخؤولة . والثاني : تثبت ؛ لأنه قد اجتمع من اللبن المحرم خمس رضعات وكان ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتا للخؤولة ، ولا تثبت أمومة واحدة منهن إذ لم يرتضع منها خمس رضعات ، ولا يستبعد ثبوت خؤولة بلا أمومة ، كما ثبت في لبن الفحل أبوة بلا أمومة ، وهذا ضعيف . والفرق بينهما : أن الخؤولة فرع محض على الأمومة ، فإذا لم يثبت الأصل فكيف يثبت فرعه ؟ بخلاف الأبوة والأمومة فإنهما أصلان لا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر .
وعلى هذا مسألة ما لو كان
nindex.php?page=treesubj&link=12908_12905لرجل أم وأخت وابنة وزوجة ابن ، فأرضعن طفلة كل واحدة منهن رضعة لم تصر واحدة منهن أمها ، وهل تحرم على الرجل ؟ على وجهين : أوجههما : ما تقدم . والتحريم هاهنا بعيد ؛ فإن هذا اللبن الذي كمل للطفل لا يجعل الرجل أبا له ولا جدا ولا أخا ولا خالا ، والله أعلم .
فَصْلٌ الْحُكْمُ الثَّانِي : الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=12985_12976لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ يَنْتَشِرُ مِنْهُ كَمَا يَنْتَشِرُ مِنَ الْمَرْأَةِ ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِغَيْرِهِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ خَالَفَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، فَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ وَيُتْرَكَ مَا خَالَفَهَا لِأَجْلِهَا ، وَلَا تُتْرَكُ هِيَ لِأَجْلِ قَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ . وَلَوْ تُرِكَتِ السُّنَنُ لِخِلَافِ مَنْ خَالَفَهَا لِعَدَمِ بُلُوغِهَا لَهُ ، أَوْ لِتَأْوِيلِهَا ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَتُرِكَ سُنَنٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَتُرِكَتِ الْحُجَّةُ إِلَى غَيْرِهَا ، وَقَوْلُ مَنْ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إِلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ ، وَقَوْلُ الْمَعْصُومِ إِلَى قَوْلِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ ، وَهَذِهِ بَلِيَّةٌ ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْهَا ، وَأَنْ لَا نَلْقَاهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13726الْأَعْمَشُ : كَانَ
عمارة وإبراهيم وَأَصْحَابُنَا لَا يَرَوْنَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ بَأْسًا حَتَّى أَتَاهُمُ
nindex.php?page=showalam&ids=14152الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ بِخَبَرِ
أبي القعيس ، يَعْنِي : فَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ وَرَجَعُوا عَنْهُ ، وَهَكَذَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا أَتَتْهُمُ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَعُوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ بِغَيْرِهَا .
قَالَ الَّذِينَ لَا يُحَرِّمُونَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ : إِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ التَّحْرِيمَ بِالرَّضَاعَةِ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ ، فَقَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=23وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ ) [ النِّسَاءِ : 23 ] وَاللَّامُ : لِلْعَهْدِ تَرْجِعُ إِلَى الرَّضَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ رَضَاعَةُ الْأُمِّ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) [ النِّسَاءِ : 24 ]
[ ص: 503 ] فَلَوْ أَثْبَتْنَا التَّحْرِيمَ بِالْحَدِيثِ لَكُنَّا قَدْ نَسَخْنَا الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ ، وَهَذَا - عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ : الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ - أَلْزَمُ ، قَالُوا : وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِسُنَّتِهِ وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ التَّحْرِيمَ بِهِ ، فَصَحَّ عَنْ
أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أَنَّ أُمَّهُ
nindex.php?page=showalam&ids=170زينب بنت أم سلمة أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَعَتْهَا
nindex.php?page=showalam&ids=64أسماء بنت أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - امْرَأَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=15الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ، قَالَتْ
زينب : وَكَانَ
الزبير يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَمْتَشِطُ فَيَأْخُذُ بِقَرْنٍ مِنْ قُرُونِ رَأْسِي وَيَقُولُ : أَقْبِلِي عَلَيَّ فَحَدِّثِينِي ، أَرَى أَنَّهُ أَبِي وَمَا وَلَدَ مِنْهُ فَهُمْ إِخْوَتِي ، ثُمَّ إِنَّ
عبد الله بن الزبير أَرْسَلَ إِلَيَّ يَخْطُبُ
أم كلثوم ابْنَتِي عَلَى
حمزة بن الزبير ، وَكَانَ
حمزة لِلْكَلْبِيَّةِ ، فَقَالَتْ لِرَسُولِهِ : وَهَلْ تَحِلُّ لَهُ ؟ وَإِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أُخْتِهِ ، فَقَالَ
عبد الله : إِنَّمَا أَرَدْتِ بِهَذَا الْمَنْعَ مِنْ قِبَلِكِ . أَمَّا مَا وَلَدَتْ
أسماء فَهُمْ إِخْوَتُكِ ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَسْمَاءَ فَلَيْسُوا لَكِ بِإِخْوَةٍ ، فَأَرْسِلِي فَاسْأَلِي عَنْ هَذَا ، فَأَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَافِرُونَ فَقَالُوا لَهَا : إِنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ قِبَلِ الرَّجُلِ لَا تُحَرِّمُ شَيْئًا فَأَنْكِحِيهَا إِيَّاهُ ، فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَ عَنْهَا .
قَالُوا : وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا : وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الرَّضَاعَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا مِنَ الرَّجُلِ .
قَالَ الْجُمْهُورُ : لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مَا يُعَارِضُ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ ، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا . أَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ الْأُخْتَ مِنَ الْأَبِ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَيَكُونَ دَالًّا عَلَى تَحْرِيمِهَا ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَنَاوَلَهَا فَيَكُونَ سَاكِتًا عَنْهَا ، فَيَكُونُ تَحْرِيمُ السُّنَّةِ لَهَا تَحْرِيمًا مُبْتَدَءًا وَمُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ) [ النِّسَاءِ : 24 ] وَالظَّاهِرُ يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْأُخْتِ لَهَا ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَمَّمَ لَفْظَ الْأَخَوَاتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ ، فَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أُخْتُهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ أُخْتَهُ مِنْ أَبِيهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ لَيْسَتْ أُخْتًا لَهُ ، (
فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=25لعائشة [ ص: 504 ] - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : ائْذَنِي لِأَفْلَحَ ؛ فَإِنَّهُ عَمُّكِ ) ، فَأَثْبَتَ الْعُمُومَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بِلَبَنِ الْفَحْلِ وَحْدَهُ ، فَإِذَا ثَبَتَتِ الْعُمُومَةُ بَيْنَ الْمُرْتَضِعَةِ وَبَيْنَ أَخِي صَاحِبِ اللَّبَنِ ، فَثُبُوتُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَوْ مِثْلِهِ .
فَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ مُرَادَ الْكِتَابِ لَا أَنَّهَا خَالَفَتْهُ ، وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ أَثْبَتَتْ تَحْرِيمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ ، أَوْ تَخْصِيصَ مَا لَمْ يَرِدْ عُمُومُهُ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَرَوْنَ التَّحْرِيمَ بِذَلِكَ فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ
علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِثْبَاتُ التَّحْرِيمِ بِهِ ، وَذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=12976رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا جَارِيَةً وَالْأُخْرَى غُلَامًا أَيَحِلُّ أَنْ يَنْكِحَهَا ؟ فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا ، اللِّقَاحُ وَاحِدٌ ، وَهَذَا الْأَثَرُ الَّذِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ صَرِيحٌ عَنِ
الزبير أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ
زينب ابْنَتُهُ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ ، وَهَذِهِ
عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تُفْتِي : أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ ، فَلَمْ يَبْقَ بِأَيْدِيكُمْ إِلَّا
عبد الله بن الزبير ، وَأَيْنَ يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ .
وَأَمَّا الَّذِينَ سَأَلَتْهُمْ فَأَفْتَوْهَا بِالْحِلِّ فَمَجْهُولُونَ غَيْرُ مُسَمَّيْنَ ، وَلَمْ يَقُلِ الرَّاوِي : فَسَأَلَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ ، بَلْ لَعَلَّهَا أَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ مِنْهُمْ فَأَفْتَاهَا بِمَا أَفْتَاهَا بِهِ
عبد الله بن الزبير ، وَلَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ إِذْ ذَاكَ مُتَوَافِرِينَ
بِالْمَدِينَةِ ، بَلْ كَانَ مُعْظَمُهُمْ وَأَكَابِرُهُمْ
بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ .
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّ الرَّضَاعَةَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّمَا اللَّبَنُ لِلْأَبِ الَّذِي ثَارَ بِوَطْئِهِ ، وَالْأُمُّ وِعَاءٌ لَهُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ تَثْبُتُ أُبُوَّةُ صَاحِبِ اللَّبَنِ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ أُمُومَةُ الْمُرْضِعَةِ ، أَوْ
[ ص: 505 ] ثُبُوتُ أُبُوَّتِهِ فَرْعٌ عَلَى ثُبُوتِ أُمُومَةِ الْمُرْضِعَةِ ؟
قِيلَ : هَذَا الْأَصْلُ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ ، وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيِّ ، وَعَلَيْهِ مَسْأَلَةُ مَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=12976_12908لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَأَرْضَعْنَ طِفْلَةً كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَتَيْنِ فَإِنَّهُنَّ لَا يَصِرْنَ أُمًّا لَهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ لَمْ تُرْضِعْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ . وَهَلْ يَصِيرُ الزَّوْجُ أَبًا لِلطِّفْلَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : لَا يَصِيرُ أَبًا كَمَا لَمْ تَصِرِ الْمُرْضِعَاتُ أُمَّهَاتٍ ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ : يَصِيرُ أَبًا لِكَوْنِ الْوَلَدِ ارْتَضَعَ مِنْ لَبَنِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ، وَلَبَنُ الْفَحْلِ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَفَرِّعٍ عَلَى أُمُومَةِ الْمُرْضِعَةِ ، فَإِنَّ الْأُبُوَّةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِحُصُولِ الِارْتِضَاعِ مِنْ لَبَنِهِ لَا لِكَوْنِ الْمُرْضِعَةِ أُمَّهُ ، وَلَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى أَصْلَيْ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ومالك فَإِنَّ عِنْدَهُمَا قَلِيلَ الرَّضَاعِ وَكَثِيرَهُ مُحَرَّمٌ ، فَالزَّوْجَاتُ الْأَرْبَعُ أُمَّهَاتٌ لِلْمُرْتَضِعِ ، فَإِذَا قُلْنَا بِثُبُوتِ الْأُبُوَّةِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - حَرُمَتِ الْمُرْضِعَاتُ عَلَى الطِّفْلِ ؛ لِأَنَّهُ رَبِيبُهُنَّ وَهُنَّ مَوْطُوآتُ أَبِيهِ ، فَهُوَ ابْنُ بَعْلِهِنَّ . وَإِنْ قُلْنَا : لَا تَثْبُتُ الْأُبُوَّةُ ، لَمْ يَحْرُمْنَ عَلَيْهِ بِهَذَا الرَّضَاعِ .
وَعَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : مَا لَوْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=12908لِرَجُلٍ خَمْسُ بَنَاتٍ فَأَرْضَعْنَ طِفْلًا كُلُّ وَاحِدَةٍ رَضْعَةً لَمْ يَصِرْنَ أُمَّهَاتٍ لَهُ . وَهَلْ يَصِيرُ الرَّجُلُ جَدًّا لَهُ ، وَأَوْلَادُهُ الَّذِينَ هُمْ إِخْوَةُ الْمُرْضِعَاتِ أَخْوَالًا لَهُ وَخَالَاتٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : يَصِيرُ جَدًّا وَأَخُوهُنَّ خَالًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَمَلَ الْمُرْتَضِعُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مِنْ لَبَنِ بَنَاتِهِ فَصَارَ جَدًّا ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُرْتَضِعُ بِنْتًا وَاحِدَةً . وَإِذَا صَارَ جَدًّا كَانَ أَوْلَادُهُ الَّذِينَ هُمْ إِخْوَةُ الْبَنَاتِ أَخْوَالًا وَخَالَاتٍ ، لِأَنَّهُنَّ إِخْوَةُ مَنْ كَمَلَ لَهُ مِنْهُنَّ خَمْسُ رَضَعَاتٍ فَنُزِّلُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مَنْزِلَةَ أُمٍّ وَاحِدَةٍ ، وَالْآخَرُ : لَا يَصِيرُ جَدًّا وَلَا أَخَوَاتُهُنَّ خَالَاتٍ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ جَدًّا فَرْعٌ عَلَى كَوْنِ ابْنَتِهِ أُمًّا ، وَكَوْنُ أَخِيهَا خَالًا فَرْعٌ عَلَى كَوْنِ أُخْتِهِ أُمًّا ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْأَصْلُ فَلَا يَثْبُتُ فَرْعُهُ ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا ؛ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْأُبُوَّةِ فِيهَا لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأُمُومَةِ عَلَى الصَّحِيحِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْفَرْعِيَّةَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْمُرْضِعَاتِ وَأَبِيهِنَّ فَإِنَّهُنَّ بَنَاتُهُ ، وَاللَّبَنُ لَيْسَ لَهُ ، فَالتَّحْرِيمُ هُنَا بَيْنَ الْمُرْضِعَةِ وَابْنِهَا ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أُمًّا لَمْ يَكُنْ أَبُوهَا جَدًّا ،
[ ص: 506 ] بِخِلَافِ تِلْكَ ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ بَيْنَ الْمُرْتَضِعِ وَبَيْنَ صَاحِبِ اللَّبَنِ ، فَسَوَاءٌ ثَبَتَتْ أُمُومَةُ الْمُرْضِعَةِ أَوْ لَا ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قُلْنَا : يَصِيرُ أَخُوهُنَّ خَالًا ، فَهَلْ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خَالَةً لَهُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : لَا تَكُونُ خَالَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ لَبَنِ أَخَوَاتِهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَلَا تَثْبُتُ الْخُؤُولَةُ . وَالثَّانِي : تَثْبُتُ ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ مِنَ اللَّبَنِ الْمُحَرَّمِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ وَكَانَ مَا ارْتَضَعَ مِنْهَا وَمِنْ أَخَوَاتِهَا مُثْبِتًا لِلْخُؤُولَةِ ، وَلَا تَثْبُتُ أُمُومَةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِذْ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ ثُبُوتُ خُؤُولَةٍ بِلَا أُمُومَةٍ ، كَمَا ثَبَتَ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ أُبُوَّةٌ بِلَا أُمُومَةٍ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْخُؤُولَةَ فَرْعٌ مَحْضٌ عَلَى الْأُمُومَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْأَصْلُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ فَرْعُهُ ؟ بِخِلَافِ الْأُبُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ فَإِنَّهُمَا أَصْلَانِ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْآخَرِ .
وَعَلَى هَذَا مَسْأَلَةُ مَا لَوْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=12908_12905لِرِجْلٍ أُمٌّ وَأُخْتٌ وَابْنَةٌ وَزَوْجَةُ ابْنٍ ، فَأَرْضَعْنَ طِفْلَةً كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَضْعَةً لَمْ تَصِرْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أُمَّهَا ، وَهَلْ تَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَوْجَهُهُمَا : مَا تَقَدَّمَ . وَالتَّحْرِيمُ هَاهُنَا بَعِيدٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّبَنَ الَّذِي كَمَلَ لِلطِّفْلِ لَا يَجْعَلُ الرَّجُلَ أَبًا لَهُ وَلَا جَدًّا وَلَا أَخًا وَلَا خَالًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .