قال المحيضون : لا نزاع أن ، وإنما النزاع في حكم هذا الدم لا في وجوده . وقد كان حيضا قبل الحمل بالاتفاق ، فنحن نستصحب حكمه حتى يأتي ما يرفعه بيقين . الحامل قد ترى الدم على عادتها ، لا سيما في أول حملها
قالوا : والحكم إذا ثبت في محل ، فالأصل بقاؤه حتى يأتي ما يرفعه ، فالأول استصحاب لحكم الإجماع في محل النزاع ، والثاني استصحاب للحكم الثابت في المحل حتى يتحقق ما يرفعه ، والفرق بينهما ظاهر .
قالوا : وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فإنه أسود يعرف دم الحيض ) . وهذا أسود يعرف فكان حيضا . إذا كان
قالوا : وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ) . أليست إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل ؟ خروج دمها في أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعا ، [ ص: 652 ] وهذا كذلك لغة ، والأصل في الأسماء تقريرها لا تغييرها . وحيض المرأة
قالوا : ولأن الدم الخارج من الفرج الذي رتب الشارع عليه الأحكام قسمان : حيض واستحاضة ، ولم يجعل لهما ثالثا ، وهذا ليس باستحاضة ، فإن الاستحاضة الدم المطبق ، والزائد على أكثر الحيض ، أو الخارج عن العادة ، وهذا ليس واحدا منها ، فبطل أن يكون استحاضة ، فهو حيض ، قالوا : ولا يمكنكم إثبات قسم ثالث في هذا المحل ، وجعله دم فساد ، فإن هذا لا يثبت إلا بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه ، وهو منتف .
قالوا : وقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - المستحاضة إلى عادتها ، وقال : ( ) . اجلسي قدر الأيام التي كنت تحيضين
فدل على أن عادة النساء معتبرة في وصف الدم وحكمه ، فإذا ، دلت عادتها على أنه حيض ، ووجب تحكيم عادتها ، وتقديمها على الفساد الخارج عن العبادة . جرى دم الحامل على عادتها المعتادة ، ووقتها من غير زيادة ولا نقصان ولا انتقال
قالوا : وأعلم الأمة بهذه المسألة نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأعلمهن ، وقد صح عنها من رواية عائشة أهل المدينة ، أنها لا تصلي ، وقد شهد له بأنه أصح من الرواية الأخرى عنها ، ولذلك رجع إليه إسحاق ، وأخبر أنه قول الإمام أحمد ، قالوا : ولا تعرف صحة الآثار بخلاف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة ، ولو صحت فهي مسألة نزاع بين الصحابة ، ولا دليل يفصل . أحمد بن حنبل
قالوا : ولأن عدم مجامعة الحيض للحمل ، إما أن يعلم بالحس أو بالشرع ، وكلاهما منتف ، أما الأول : فظاهر ، وأما الثاني : فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما لا يجتمعان .
وأما قولكم : إنه جعله دليلا على براءة الرحم من الحمل في العدة والاستبراء .
قلنا : جعل دليلا ظاهرا أو قطعيا الأول : صحيح . والثاني : باطل ، فإنه لو كان دليلا قطعيا لما تخلف عنه مدلوله ، ولكانت أول مدة الحمل من حين [ ص: 653 ] انقطاع الحيض ، وهذا لم يقله أحد ، بل أول المدة من حين الوطء ، ولو حاضت بعده عدة حيض ، فلو وطئها ، ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين الوطء ، ولأقل منها من حين انقطاع الحيض ، لحقه النسب اتفاقا ، فعلم أنه أمارة ظاهرة ، قد يتخلف عنها مدلولها تخلف المطر عن الغيم الرطب ، وبهذا يخرج الجواب عما استدللتم به من السنة ، فإنا بها قائلون ، وإلى حكمها صائرون ، وهي الحكم بين المتنازعين .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قسم النساء إلى قسمين : حامل فعدتها وضع حملها ، وحائل فعدتها بالحيض ، ونحن قائلون بموجب هذا غير منازعين فيه ، ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصوم معه وتصلي ؟ هذا أمر آخر لا تعرض للحديث به ، وهذا يقول القائلون : بأن دمها دم حيض ، هذه العبارة بعينها ، ولا يعد هذا تناقضا ولا خللا في العبارة .
قالوا : وهكذا قوله في شأن - رضي الله عنه - : ( عبد الله بن عمر ) ، إنما فيه إباحة الطلاق إذا كانت حائلا بشرطين : الطهر وعدم المسيس ، فأين في هذا التعرض لحكم الدم الذي تراه على حملها ؟ وقولكم إن الحامل لو كانت تحيض لكان طلاقها في زمن الدم بدعة ، وقد اتفق الناس على أن مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ؟ . طلاق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم
قلنا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أحوال المرأة التي يريد طلاقها إلى حال حمل ، وحال خلو عنه ، وجوز طلاق الحامل مطلقا من غير استثناء ، وأما غير ذات الحمل ، فإنما أباح طلاقها بالشرطين المذكورين ، وليس في هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد ، بل على أن الحامل تخالف غيرها في الطلاق ، وأن غيرها إنما تطلق طاهرا غير مصابة ، ولا يشترط في الحامل شيء من هذا ، بل تطلق عقيب الإصابة ، وتطلق وإن رأت الدم ، فكما لا يحرم طلاقها عقيب إصابتها ، لا يحرم حال حيضها .
وهذا الذي تقتضيه حكمة الشارع في وقت الطلاق إذنا ومنعا ، فإن المرأة متى استبان حملها كان المطلق على بصيرة من أمره ، ولم يعرض له من الندم ما يعرض لهن كلهن بعد الجماع ، ولا يشعر بحملها ، فليس ما منع منه نظير [ ص: 654 ] ما أذن فيه ، لا شرعا ، ولا واقعا ، ولا اعتبارا ، ولا سيما من علل المنع من الطلاق في الحيض بتطويل العدة ، فهذا لا أثر له في الحامل .
قالوا : وأما قولكم : إنه لو كان حيضا ؛ لانقضت به العدة ، فهذا لا يلزم ، لأن الله - سبحانه - جعل عدة الحامل بوضع الحمل ، وعدة الحائل بالأقراء ، ولا يمكن انقضاء عدة الحامل بالأقراء لإفضاء ذلك إلى أن يملكها الثاني ويتزوجها وهي حامل من غيره ، فيسقي ماءه زرع غيره .
قالوا : وإذا كنتم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل ، وحملتم على ذلك حديث - رضي الله عنها - ولا يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به ، فقد أعطيتم أن الحيض والحبل يجتمعان ، فبطل استدلالكم من رأسه ، لأن مداره على أن الحيض لا يجامع الحبل . عائشة
فإن قلتم : نحن إنما جوزنا ورود الحمل على الحيض ، وكلامنا في عكسه ، وهو ورود الحيض على الحمل وبينهما فرق .
قيل : إذا كانا متنافيين لا يجتمعان ، فأي فرق بين ورود هذا على هذا وعكسه ؟ .
وأما قولكم : إن الله - سبحانه - أجرى العادة بانقلاب دم الطمث لبنا يتغذى به الولد ، ولهذا لا تحيض المراضع . قلنا : وهذا من أكبر حجتنا عليكم ؛ فإن هذا الانقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم بعد الوضع ، وهو زمن سلطان اللبن ، وارتضاع المولود ، وقد أجرى الله العادة بأن المرضع لا تحيض . ومع هذا ، فلو رأت دما في وقت عادتها ، لحكم له بحكم الحيض بالاتفاق ، فلأن يحكم له بحكم الحيض في الحال التي لم يستحكم فيها انقلابه ، ولا تغذى الطفل به أولى وأحرى .
قالوا : وهب أن هذا كما تقولون فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن ، وهذا بعد أن ينفخ فيه الروح . فأما قبل ذلك ، فإنه لا ينقلب لبنا لعدم حاجة الحمل إليه .
[ ص: 655 ] وأيضا ، فإنه لا يستحيل كله لبنا ، بل يستحيل بعضه ، ويخرج الباقي ، وهذا القول هو الراجح كما تراه نقلا ودليلا ، والله المستعان .