[ ص: 50 ] بل ، فليس على وجه الأرض قبلة غيرها . ومن خصائصها كونها قبلة لأهل الأرض كلهم
ومن خواصها أيضا أنه . يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض
وأصح المذاهب في هذه المسألة : أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان لبضعة عشر دليلا قد ذكرت في غير هذا الموضع ، وليس مع المفرق ما يقاومها البتة مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان ، وليس هذا موضع استيفاء الحجاج من الطرفين .
ومن خواصها أيضا المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض ، كما في " الصحيحين " عن أن أبي ذر قال : ( المسجد الحرام ، قلت : ثم أي ؟ قال المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما ؟ قال أربعون عاما ) وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به فقال : معلوم أن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض ؟ فقال : سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى ، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام ، وهذا من جهل هذا القائل ، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه ، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وآلهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار .
[ ص: 51 ] ومما يدل على تفضيلها أن الله تعالى أخبر أنها أم القرى ، فالقرى كلها تبع لها وفرع عليها ، وهي أصل القرى ، فيجب ألا يكون لها في القرى عديل ، فهي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن (الفاتحة) أنها أم القرآن ، ولهذا لم يكن لها في الكتب الإلهية عديل .
ومن خصائصها أنها لا يجوز دخولها لغير أصحاب الحوائج المتكررة إلا بإحرام ، وهذه خاصية لا يشاركها فيها شيء من البلاد ، وهذه المسألة تلقاها الناس عن رضي الله عنهما ، وقد روي عن ابن عباس بإسناد لا يحتج به مرفوعا ( ابن عباس مكة إلا بإحرام ، من أهلها ومن غير أهلها لا يدخل أحد ) ذكره ، ولكن أبو أحمد بن عدي في الطريق ، وآخر قبله من الضعفاء . الحجاج بن أرطاة
وللفقهاء في المسألة ثلاثة أقوال : النفي ، والإثبات ، والفرق بين من هو داخل المواقيت ومن هو قبلها ، فمن قبلها لا يجاوزها إلا بإحرام ، ومن هو داخلها فحكمه حكم أهل مكة ، وهو قول ، والقولان الأولان أبي حنيفة للشافعي وأحمد .
وإن لم يفعلها ، قال تعالى : ( ومن خواصه أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) [ الحج : 25 ] فتأمل [ ص: 52 ] كيف عدى فعل الإرادة هاهنا بالباء ، ولا يقال : أردت بكذا إلا لما ضمن معنى فعل " هم " فإنه يقال : هممت بكذا ، فتوعد من هم بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم .
ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه لا كمياتها ، فإن السيئة جزاؤها سيئة ، لكن سيئة كبيرة جزاؤها مثلها ، وصغيرة جزاؤها مثلها ، وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض ، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه ، فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات ، والله أعلم . فالسيئة في حرم الله
وقد ظهر سر هذا التفضيل والاختصاص في ، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد ، فهو الأولى بقول القائل : انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين
محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال
ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس ، أي : يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ، ولا يقضون منه وطرا ، بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقا .
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح ، وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ، ورضي المحب بمفارقة فلذ الأكباد ، والأهل والأحباب والأوطان ، مقدما بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطف والمشاق ، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه ويراه -لو ظهر سلطان المحبة في قلبه- أطيب من نعم المتحلية وترفهم ولذاتهم .
وليس محبا من يعد شقاءه عذابا إذا ما كان يرضى حبيبه
وهذا كله سر إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله : ( وطهر بيتي ) [ الحج : 26 ] فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما [ ص: 53 ] اقتضته ، كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك ، وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم ، فكل ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه فله من المزية والاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاء والاجتباء ، ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلا آخر ، وتخصيصا وجلالة زائدا على ما كان له قبل الإضافة ، ولم يوفق لفهم هذا المعنى من سوى بين الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن ، وزعم أنه لا مزية لشيء منها على شيء ، وإنما هو مجرد الترجيح بلا مرجح ، وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجها قد ذكرت في غير هذا الموضع ، ويكفي تصور هذا المذهب الباطل في فساده ، فإن مذهبنا يقتضي أن تكون ذوات الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة ، وإنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها ، وكذلك نفس البقاع واحدة بالذات ليس لبقعة على بقعة مزية البتة ، وإنما هو لما يقع فيها من الأعمال الصالحة ، فلا مزية لبقعة البيت ، والمسجد الحرام ، ومنى ، وعرفة ، والمشاعر على أي بقعة سميتها من الأرض ، وإنما التفضيل باعتبار أمر خارج عن البقعة لا يعود إليها ولا إلى وصف قائم بها ، والله سبحانه وتعالى قد رد هذا القول الباطل بقوله تعالى : ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) ، قال الله تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] أي : ليس كل أحد أهلا ولا صالحا لتحمل رسالته ، بل لها محال مخصوصة لا تليق إلا بها ، ولا تصلح إلا لها ، والله أعلم بهذه المحال منكم . ولو كانت الذوات متساوية كما قال هؤلاء لم يكن في ذلك رد عليهم ، وكذلك قوله تعالى : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) [ الأنعام : 53 ] أي : هو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمته ، فيختصه بفضله ويمن عليه ممن لا يشكره ، فليس كل محل يصلح لشكره ، واحتمال منته ، والتخصيص بكرامته .
فذوات ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها [ ص: 54 ] مشتملة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها ، ولأجلها اصطفاها الله ، وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفات ، وخصها بالاختيار ، فهذا خلقه ، وهذا اختياره ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) [ القصص : 67 ] ، وما أبين بطلان رأي يقضي بأن مكان البيت الحرام مساو لسائر الأمكنة ، وذات الحجر الأسود مساوية لسائر حجارة الأرض ، وذات رسول الله صلى الله عليه وسلم مساوية لذات غيره ، وإنما التفضيل في ذلك بأمور خارجة عن الذات والصفات القائمة بها ، وهذه الأقاويل وأمثالها من الجنايات التي جناها المتكلمون على الشريعة ونسبوها إليها وهي بريئة منها ، وليس معهم أكثر من اشتراك الذوات في أمر عام ، وذلك لا يوجب تساويها في الحقيقة ؛ لأن المختلفات قد تشترك في أمر عام مع اختلافها في صفاتها النفسية ، وما سوى الله تعالى بين ذات المسك وذات البول أبدا ، ولا بين ذات الماء وذات النار أبدا ، والتفاوت البين بين الأمكنة الشريفة وأضدادها والذوات الفاضلة وأضدادها أعظم من هذا التفاوت بكثير ، فبين ذات موسى عليه السلام وذات فرعون من التفاوت أعظم مما بين المسك والرجيع ، وكذلك التفاوت بين نفس الكعبة وبين بيت السلطان أعظم من هذا التفاوت أيضا بكثير ، فكيف تجعل البقعتان سواء في الحقيقة والتفضيل باعتبار ما يقع هناك من العبادات والأذكار والدعوات ؟! .
ولم نقصد استيفاء الرد على هذا المذهب المردود المرذول ، وإنما قصدنا تصويره ، وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكم ولا يعبأ الله وعباده بغيره شيئا ، والله سبحانه لا يخصص شيئا ، ولا يفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله ، نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبه ، فهو الذي خلقه ، ثم اختاره بعد خلقه ، ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) .