فصل
في ، والزيادة في الأكل على قدر الحاجة ، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب هديه صلى الله عليه وسلم في الاحتماء من التخم
في " المسند " وغيره : عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا بد فاعلا ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه ) . ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن
الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع البطيئة الهضم ، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية ، واعتاد ذلك أورثته أمراضا متنوعة ، منها بطيء الزوال وسريعه ، فإذا توسط في الغذاء وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلا في كميته وكيفيته ، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير .
[ ص: 17 ] ومراتب الغذاء ثلاثة :
أحدها : مرتبة الحاجة .
والثانية : مرتبة الكفاية .
والثالثة : مرتبة الفضلة .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضعف معها ، فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء ، والثالث للنفس ، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، وكسل الجوارح عن الطاعات ، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع . فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائما أو أكثريا . وأما إذا كان في الأحيان فلا بأس به ، فقد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن حتى قال : ( والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا أبو هريرة ) ، وأكل الصحابة بحضرته مرارا حتى شبعوا . شرب
والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإن أخصبه ، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء ، لا بحسب كثرته .
ولما كان في الإنسان جزء أرضي ، وجزء هوائي ، وجزء مائي ، قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة .
فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟ قيل هذه مسألة تكلم فيها الأطباء وقالوا : إن في البدن جزءا ناريا بالفعل ، وهو أحد أركانه واسطقساته .
[ ص: 18 ] ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم وقالوا : ليس في البدن جزء ناري بالفعل ، واستدلوا بوجوه :
أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها وتكون ، والأول مستبعد لوجهين ، أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ، فلو نزلت لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم . الثاني : أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ونهاية العظم أولى بالانطفاء .
وأما الثاني : - وهو أن يقال إنها تكونت هاهنا - فهو أبعد وأبعد ؛ لأن الجسم الذي صار نارا بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان قبل صيرورته إما أرضا ، وإما ماء ، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة ، وهذا الذي قد صار نارا أولا ، كان مختلطا بأحد هذه الأجسام ، ومتصلا بها ، والجسم الذي لا يكون نارا إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها لا يكون مستعدا لأن ينقلب نارا ؛ لأنه في نفسه ليس بنار ، والأجسام المختلطة باردة ، فكيف يكون مستعدا لانقلابه نارا ؟
فإن قلتم لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام وتجعلها نارا بسبب مخالطتها إياها ؟
قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول ، فإن قلتم : إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار ، وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ظهرت النار منها ، وإذا ضربنا الحجر على الحديد ظهرت [ ص: 19 ] النار ، وكل هذه النارية حدثت عند الاختلاط ، وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضا .
قال المنكرون : نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار كما في ضرب الحجارة على الحديد ، أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار كما في البلورة ، لكنا نستبعد ذلك جدا في أجرام النبات والحيوان ، إذ ليس في أجرامها من الاصطكاك ما يوجب حدوث النار ، ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة ، كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها فلا تتولد النار البتة فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار ؟
الوجه الثاني : في أصل المسألة : أن الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية لكانت محالا إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهرا طويلا ، بحيث لا تنطفئ مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل .
الوجه الثالث : أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل لكان مغلوبا بالجزء المائي الذي فيه ، وكان الجزء الناري مقهورا به وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب ، فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية القليلة جدا إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار
الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في مواضع متعددة يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء ، وفي بعضها أنه خلقه من تراب ، وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين ، وفي بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار ، وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالا كالفخار ، ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار بل جعل ذلك خاصية إبليس . وثبت [ ص: 20 ] في " صحيح " : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مسلم آدم مما وصف لكم ) ، وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط ، ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار ، ولا أن في مادته شيئا من النار . خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق
الوجه الخامس : أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في أبدان الحيوان ، وهي دليل على الأجزاء النارية ، وهذا لا يدل فإن أسباب الحرارة أعم من النار ، فإنها تكون عن النار تارة ، وعن الحركة أخرى ، وعن انعكاس الأشعة ، وعن سخونة الهواء ، وعن مجاورة النار ، وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضا ، وتكون عن أسباب أخر ، فلا يلزم من الحرارة النار .
قال أصحاب النار : من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما ، وإلا كان كل منهما غير ممازج للآخر ، ولا متحدا به ، وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد فلا يخلو إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أو لا ، فإن حصل فهو الجزء الناري ، وإن لم يحصل لم يكن المركب مسخنا بطبعه بل إن سخن كان التسخين عرضيا ، فإذا زال التسخين العرضي لم يكن الشيء حارا في طبعه ولا في كيفيته وكان باردا مطلقا ، لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حارا بالطبع فعلمنا أن حرارتها إنما كانت ؛ لأن فيها جوهرا ناريا .
وأيضا فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد ؛ لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد ، وكانت خالية عن المعاون والمعارض وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية ، ولو كان كذلك لما حصل لها الإحساس بالبرد ؛ لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثله ، والشيء لا ينفعل عن مثله ، وإذا لم ينفعل عنه لم يحس به ، وإذا لم يحس به لم يتألم عنه ، وإن كان [ ص: 21 ] دونه فعدم الانفعال يكون أولى ، فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد ولا تألم به . قالوا : وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول : الأجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها ، وطبيعتها النارية ، ونحن لا نقول بذلك ، بل نقول : إن صورتها النوعية تفسد عند الامتزاج .
قال الآخرون : لم لا يجوز أن يقال : إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر الكواكب ، ثم ذلك المركب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتا كان أو حيوانا أو معدنا ، وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسبب خواص وقوى يحدثها الله تعالى عند ذلك الامتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل ؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان البتة ، وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك .
وأما حديث إحساس البدن بالبرد ، فنقول : هذا يدل على أن في البدن حرارة وتسخينا ومن ينكر ذلك ؟ لكن ما الدليل على انحصار المسخن في النار ، فإنه وإن كان كل نار مسخنا فإن هذه القضية لا تنعكس كلية بل عكسها الصادق بعض المسخن نار .
وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية ، فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية ، والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم في كتابه المسمى بالشفا ، وبرهن على بقاء الأركان أجمع على طبائعها في المركبات . وبالله التوفيق .