فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في المنع من التداوي بالمحرمات
روى أبو داود في " سننه " من حديث رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبي الدرداء ) . إن الله أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ، ولا [ ص: 142 ] تداووا بالمحرم
وذكر في " صحيحه " عن البخاري : ( ابن مسعود ) . إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم
وفي " السنن " : عن ، قال : ( أبي هريرة ) . نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدواء الخبيث
وفي " صحيح " عن مسلم طارق بن سويد الجعفي ، أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر فنهاه ، أو كره أن يصنعها ، فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : ( ) . إنه ليس بدواء ولكنه داء
وفي " السنن " أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الخمر يجعل في الدواء فقال " ( ) ، رواه إنها داء [ ص: 143 ] وليست بالدواء أبو داود والترمذي .
وفي " صحيح " مسلم طارق بن سويد الحضرمي قال : قلت : ( يا رسول الله : إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها قال : " لا " فراجعته قلت إنا نستشفي للمريض قال : إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء ) . عن
وفي " سنن " : ( النسائي ) . أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاه عن قتلها
ويذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من تداوى بالخمر ، فلا شفاه الله ) .
المعالجة بالمحرمات قبيحة عقلا وشرعا ، أما الشرع فما ذكرنا من هذه الأحاديث وغيرها ، وأما العقل ، فهو أن الله سبحانه إنما حرمه لخبثه ، فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيبا عقوبة لها ، كما حرمه على بني إسرائيل بقوله : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء : 160 ] ; وإنما حرم على هذه الأمة ما حرم لخبثه ، وتحريمه له حمية لهم ، وصيانة عن تناوله ، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل ، فإنه وإن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقما أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه ، فيكون المداوى به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب .
[ ص: 144 ] وأيضا فإن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق ، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته ، وهذا ضد مقصود الشارع ، وأيضا فإنه داء كما نص عليه صاحب الشريعة ، فلا يجوز أن يتخذ دواء .
وأيضا فإنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث ؛ لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالا بينا ، فإذا كانت كيفيته خبيثة اكتسبت الطبيعة منه خبثا فكيف إذا كان خبيثا في ذاته ، ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة ، لما تكسب النفس من هيئة الخبث وصفته .
وأيضا فإن في إباحة التداوي به ، ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة ، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيل لأسقامها جالب لشفائها ، فهذا أحب شيء إليها والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن ، ولا ريب أن بين سد الذريعة إلى تناوله وفتح الذريعة إلى تناوله تناقضا وتعارضا .
وأيضا فإن في هذا الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء ، ولنفرض الكلام في أم الخبائث التي ما جعل الله لنا فيها شفاء قط ، فإنها شديدة المضرة بالدماغ الذي هو مركز العقل عند الأطباء ، وكثير من الفقهاء والمتكلمين . قال أبقراط في أثناء كلامه في الأمراض الحادة : ضرر الخمرة بالرأس شديد ؛ لأنه يسرع الارتفاع إليه . ويرتفع بارتفاعه الأخلاط التي تعلو في البدن ، وهو كذلك يضر بالذهن .
وقال صاحب " الكامل " : إن خاصية الشراب الإضرار بالدماغ والعصب . وأما غيره من الأدوية المحرمة فنوعان : أحدهما : تعافه النفس ولا تنبعث لمساعدته الطبيعة على دفع المرض به ، كالسموم ، ولحوم الأفاعي ، وغيرها من المستقذرات ، فيبقى كلا على الطبيعة مثقلا لها ، فيصير حينئذ داء لا دواء .
[ ص: 145 ] والثاني : ما لا تعافه النفس كالشراب الذي تستعمله الحوامل مثلا ، فهذا ضرره أكثر من نفعه ، والعقل يقضي بتحريم ذلك ، فالعقل والفطرة مطابق للشرع في ذلك .
وهاهنا سر لطيف في كون المحرمات لا يستشفى بها ، فإن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول ، واعتقاد منفعته ، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء ، فإن النافع هو المبارك ، وأنفع الأشياء أبركها ، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي ينتفع به حيث حل ، ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها ، وبين حسن ظنه بها وتلقي طبعه لها بالقبول ، بل كلما كان العبد أعظم إيمانا ، كان أكره لها وأسوأ اعتقادا فيها ، وطبعه أكره شيء لها ، فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها ، وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة ، وهذا ينافي الإيمان ، فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجه داء ، والله أعلم .