[ ص: 162 ] فصل
في هديه - صلى الله عليه وسلم - في رقية اللديغ بالفاتحة
أخرجا في " الصحيحين " من حديث ، قال : ( أبي سعيد الخدري ) . انطلق نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب ، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا : يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه ، فهل عند أحد منكم من شيء ؟ فقال بعضهم : نعم والله إني لأرقي ، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا ، فصالحوهم على قطيع من الغنم ، فانطلق يتفل عليه ، ويقرأ : الحمد لله رب العالمين ، فكأنما أنشط من عقال ، فانطلق يمشي ، وما به قلبة قال : فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقتسموا فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان ، فننظر ما يأمرنا ، فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له ذلك فقال : " وما يدريك أنها رقية ؟ " ثم قال : قد أصبتم ، اقسموا واضربوا لي معكم سهما
وقد روى في " سننه " من حديث ابن ماجه علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ) . خير الدواء القرآن
ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة ، فما الظن بكلام رب العالمين ، الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء [ ص: 163 ] التام ، والعصمة النافعة ، والنور الهادي ، والرحمة العامة الذي لو أنزل على جبل ؛ لتصدع من عظمته وجلالته . قال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) [ الإسراء : 82 ] ، و" من " هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض ، هذا أصح القولين كقوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) [ الفتح : 29 ] وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن ، ولا في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور مثلها ، المتضمنة لجميع معاني كتب الله المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب - تعالى - ومجامعها ، وهي الله ، والرب ، والرحمن ، وإثبات المعاد ، وذكر التوحيدين : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة ، وطلب الهداية ، وتخصيصه سبحانه بذلك ، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق ، وأنفعه وأفرضه ، وما العباد أحوج شيء إليه ، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم ، المتضمن كمال معرفته ، وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، والاستقامة عليه إلى الممات ، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق ، وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق ، والعمل به ، ومحبته ، وإيثاره ، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له ، وضال بعدم معرفته له .
وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر ، والشرع ، والأسماء ، والصفات ، والمعاد ، والنبوات ، وتزكية النفوس ، وإصلاح القلوب ، وذكر عدل الله ، وإحسانه ، والرد على جميع أهل البدع والباطل ، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير " مدارج السالكين " في شرحها .
وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من الأدواء ، ويرقى بها اللديغ .
وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله ، وتفويض الأمر كله إليه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وسؤاله مجامع النعم كلها ، وهي الهداية التي تجلب النعم ، وتدفع النقم من أعظم الأدوية الشافية الكافية .
[ ص: 164 ] وقد قيل : إن موضع الرقية منها : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء ، فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل ، والالتجاء والاستعانة ، والافتقار والطلب ، والجمع بين أعلى الغايات ، وهي عبادة الرب وحده ، وأشرف الوسائل وهي الاستعانة به على عبادته ، ما ليس في غيرها ، ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه ، وفقدت الطبيب والدواء ، فكنت أتعالج بها آخذ شربة من ماء زمزم وأقرؤها عليها مرارا ، ثم أشربه فوجدت بذلك البرء التام ، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع فأنتفع بها غاية الانتفاع .