قال الشيخ تاج الدين السبكي في الطبقات الوسطى في ترجمة الإصطخري أحد أئمة أصحابنا الشافعيين أصحاب الوجوه ما نصه : ولي الحسبة ببغداد وأحرق طاق اللعب من أجل ما يعمل فيه من الملاهي ، وقال في الطبقات الكبرى في ترجمة الإصطخري أيضا : من أخباره في حسبته أنه كان يأتي إلى باب القاضي فإذا لم يجده جالسا يفصل القضايا أمر من يستكشف عنه ، هل به عذر من أكل أو شرب أو حاجة الإنسان ونحو ذلك ؟ فإن لم يجد به عذرا أمره بالجلوس للحكم ، ومنها أنه أحرق مكان الملاهي من أجل ما يعمل فيها من الملاهي ، قال ابن السبكي : وهذا منه دليل على أنه كان يرى جواز إذا تعين طريقا - هذه عبارة إتلاف مكان الفساد ابن السبكي ، وقد نقل في الأحكام السلطانية فعل الماوردي الإصطخري ولم ينكره ، وقال أيضا في الأحكام السلطانية : يمتاز والي الجرائم على القضاة بأوجه : منها أن له فيمن تكررت منه الجرائم ، ولم ينزجر بالحدود استدامة حبسه إذا أضر الناس بجرائمه حتى يموت ، ومنها أن له أخذ المجرم بالتوبة قهرا ويظهر له من الوعيد ما يقوده إليها طوعا ويتوعده بالقتل فيما لا يجب فيه القتل .
وقال في الإحياء : الغزالي : الأولى : درجات النهي عن المنكر سبعة أن ذلك حرام ، وذلك للجاهل ، الثانية : التخويف بلطف . الثالثة : النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله ، وذلك يعدل إليه عند العجز عن المنع باللطف وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح . الرابعة : السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن . الخامسة : التغيير باليد ككسر آلات الملاهي ، وإراقة الخمر ونحو ذلك كقوله : دع عنك هذا أو لأكسرن رأسك أو لأضربن رقبتك . السادسة : التهديد والتخويف ، وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على [ ص: 143 ] قدر الحاجة في الدفع . السابعة : أن يحتاج إلى أعوان يشهرون السلاح ، وفي احتياج هذا إلى إذن الإمام خلاف فقال قائلون : يحتاج إليه ؛ لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن ، وقال آخرون : لا يحتاج إلى إذن ، وهو الأقيس ؛ لأن منتهاه تجنيد الجنود في رضاء الله ودفع معاصيه ، ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعا لأهل الكفر ، فكذلك مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك بلا شهر سلاح جائز ؛ لأن الكافر لا بأس بقتله فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله ، والمقتول من القائمين في حرب الفريقين شهيد ، ثم قال قمع أهل الفساد : فإن قلت : فليجز للسلطان الغزالي التي فيها يشربون ، وإحراق أموالهم التي بها يتوصلون للمعاصي ، فاعلم أن ذلك إن ورد الشرع به لم يكن خارجا عن سنن المصالح ، والمصالح يتبع فيها ولا يبتدع ، هذا كلام زجر الناس عن المعاصي بإتلاف أموالهم ، وتخريب دورهم . الغزالي
فعلق القول به على وروده من الشرع ؛ لأنه لم يقف فيه على حديث ، وقد صحت به الأحاديث والآثار عن الخلفاء الراشدين فإن قيل : التعزير بإتلاف المال منسوخ في مذهبنا قلت : محل ذلك فيما لم يتعين طريقا لإزالة الفساد ، أما ما تعين طريقا لإزالته فإنه غير منسوخ فيه ، ولهذا فعله وغيره من الخلفاء الراشدين وهلم جرا ، وقد نص أصحابنا على مثل ذلك في فروع : منها قولهم يجوز عمر بن الخطاب ، ومنها قولهم : إن آلات الملاهي تكسر وهو متفق عليه عندنا ، ومنها قال كسر أواني الذهب والفضة ؛ لتحريم استعمالها واتخاذها في الإحياء : للولاة الغزالي دون الآحاد قال : وقد فعل ذلك في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأكيدا للزجر ولم يثبت نسخه - هذا كلام كسر الظروف التي فيها الخمور ؛ زجرا وتأديبا . الغزالي
قال الأسنوي في شرح المنهاج بعد نقله : - وهو من النفائس المهمات - فانظر إلى قوله ، ولم يثبت نسخه كيف صرح بأن هذا القسم مما لم يجر فيه النسخ ، وإن جرى في القسم الآخر ، ومنها قال في الإحياء في إراقة الخمور للآحاد : ولو كانت الخمر في قوارير ضيقة الرؤوس ولو اشتغل بإراقتها لأدركه الفساق ومنعوه ، أو لم يخف ذلك لكن كان فيه تضييع زمانه وتعطيل شغله فله كسرها ، إذ ليس عليه أن يضيع منفعة بدنه وغرضه من أشغاله لأجل ظروف الخمر - نقله الغزالي الأسنوي وارتضاه - ومنها قال في الإحياء : لو كانت آنية من بلور أو زجاج على صورة حيوان وفي كسرها خسران مال كثير جاز كسرها ، ومنها قال الغزالي في الإحياء : لو أخبره عدلان ابتداء من غير استخبار أن فلانا يشرب الخمر في داره ، أو بأن في داره [ ص: 144 ] خمرا أعده للشرب فله إذ ذاك أن يدخل داره ، ولا يلزمه الاستئذان ويكون قد تخطى ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر ككسر رأسه بالضرب للمنع مهما احتاج إليه ، ومنها قال الغزالي : يتوقى في إراقة الخمور كسر الأواني ، وفي النهي عن لبس الحرير تمزيق الثوب إن وجد إلى ذلك سبيلا ، فإن لم يقدر إلا بالكسر والتمزيق فله ذلك ، وسقطت قيمة الظرف ويقومه بسبب الخمر إذا صار حائلا بينه وبين الوصول إلى الخمر ، ولو ستر الخمر ببدنه لكنا نقصد بدنه للضرب والجرح لنتوصل إلى إراقة الخمر فإذا لا تزيد حرمة ملكه على حرمة نفسه انتهى . الغزالي
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه في صفر سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة بلغ أن جماعة من الخليفة المقتدر بالله الرافضة يجتمعون في مسجد براثا فينالون من الصحابة ، ولا يصلون الجمعة ويكاتبون القرامطة ويدعون إلى ولاية محمد بن إسماعيل الذي بين الكوفة وبغداد ويدعون أنه المهدي ويتبرؤون من المقتدر ومن تبعه ، فأمر بالاحتفاظ عليهم واستفتى العلماء في المسجد المذكور فأفتوا بأنه مسجد ضرار يهدم كما هدم مسجد الضرار ، فأمر الخليفة بهدم المسجد المذكور كما أفتى بذلك العلماء فهدمه نازوك صاحب الشرطة وأمر الوزير الخاقاني فجعل مكانه مقبرة فدفن فيه جماعة من الموتى .
وقال ابن عطية في تفسيره : روي أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة يرمى فيه الأقذار والقمامات قال : وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت ( لا تقم فيه أبدا ) كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد ، وقال صاحب عيون التفاسير : كل فهو لاحق مسجد بني مباهاة ورياء وسمعة أو لغرض غير وجه الله أو بمال غير طيب بمسجد الضرار ، وذكر نحو ذلك الكواشي في تفسيره وهو من الشافعية ، والشهاب الأياسلوغي في تفسيره وهو من الحنفية ، وقال القرطبي في تفسيره ما نصه قال علماؤنا : لا يجوز أن يبني مسجدا إلى جنب مسجد ، ويجب هدمه والمنع من بنائه ؛ لئلا يتضرر المسجد الأول فيبقى شاغرا إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ ، وكذلك قالوا لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان ويجب منع الثاني ومن صلى الجمعة فيه لم تجزئه ، وقد أحرق النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد الضرار وهدمه .
[ ص: 145 ] [ قال علماؤنا : وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضرار ] قلنا قال علماؤنا : وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه يهدم ، وينزع إذا كان فيه ضرر فما ظنك بسواه ؟ بل هو أحرى أن يزال ويهدم ، هذا كله كلام القرطبي .
وقال ابن فرحون في طبقات المالكية في ترجمة أحد أئمة المالكية قاضي الحارث بن مسكين مصر : كان عدلا في قضائه محمود السيرة ، قال محمد بن عبد الحكم : قال ابن أبي داود : لقد قام حارسكم مقام الأنبياء وقد هدم مسجدا كان بناه خراساني بين القبور بناحية القطب في الصحراء ، وكان يجتمع فيه للقراءة والقصص والتعبير ، قال ابن فرحون : وبمثل هذا أفتى يحيى بن عمر في كل مسجد يبنى نائيا عن القرية حيث لا يصلي فيه أهل القرية ، وإنما يصلي فيه من ينتابه ، وبذلك أفتى في مسجد السبت بالقيروان ، وبمثله أفتى أبو عمران في المسجد الذي بني بجبل فاس .
وقال ابن فرحون في كتابه تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام : التعزير لا يختص بفعل معين ، ولا قول معين فقد عزر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجر . وأمر بهجر عمر بن الخطاب صبيغ الذي كان يسأل عن مشكلات القرآن فكان لا يكلمه أحد . وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكسر دنان الخمر وشق ظروفها ، ومن ذلك إباحته المدينة لمن وجده ، وأمره سلب الصائد في حرم بتحريق الثوبين المعصفرين ، وأمره يوم عبد الله بن عمرو خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحوم الحمر ، وهدمه لمسجد الضرار ، وأمره ، وبقطع نخل بتحريق متاع الغال اليهود وتحريقها ، ومن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن ناسا من المنافقين يثبطون الناس عنه في غزوة تبوك فبعث إليهم طلحة في نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم البيت ففعل ، ومن ذلك أن أمر بتحريق قصر عمر بن الخطاب لما بلغه أنه احتجب عن الخروج للحكم بين الناس ، وأمر أيضا بتحريق حانوت سعد بن أبي وقاص رويشد الثقفي الذي كان يبيع الخمر وقال له : أنت فويسق ، ولست برويشد ، ومن ذلك أنه أراق اللبن المغشوش ، وغير ذلك مما يكثر تعداده ، قال : وهذه قضايا صحيحة معروفة .
وقال الإمام شمس الدين بن القيم الحنبلي في كتاب الطرق الحكمية : قد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - الغال من الغنيمة سهمه وحرق متاعه هو وخلفاؤه من بعده ، ومنع القاتل من السلب لما أساء شافعه على أمير السرية ، وعزم على ، وأمر بكسر دنان الخمر وبكسر القدور التي طبخ فيها اللحم الحرام ، وبتحريق الثوبين المعصفرين ، وسلك أصحابه وخلفاؤه من بعده من ذلك ما هو معروف مشهور ، فحرق تحريق بيوت تاركي الجمعة [ ص: 146 ] والجماعة حانوت الخمار بما فيه ، وحرق قرية يباع فيها الخمر ، وحرق قصر عمر بن الخطاب لما احتجب في قصره عن الرعية . سعد بن أبي وقاص
وسئل أستاذنا الإمام كمال الدين بن الهمام الحنفي عن فأجاب بما نصه قال الفقهاء : رجل أظهر الفسق في داره ينبغي أن يتقدم إليه أبدا للعذر فإن كف لم يتعرض له وإن لم يكف فالإمام مخير إن شاء سجنه وإن شاء ضربه أسواطا وإن شاء أزعجه عن داره ، وقد بالغ بعض أشياخنا حيث أمر بتخريب دار الفاسق انتهى . رجل يجمع في بيته جماعة إلى الفسق
وقال ابن فرحون : صرح الحنفية وذكروا ذلك في بقتل من لا يزول فساده إلا بالقتل . وفي معجم الأدباء اللوطي إذا أكثر من ذلك يقتل تعزيرا لياقوت الحموي أن لما فتح نور الدين الشهيد المدرسة الكبيرة بحلب استدعى البرهان البلخي إمام الحنفية في زمانه فألقى فيها الدرس وكان الأذان بحلب على قاعدة الشيعة يزاد فيه حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر ، فلما سمع البلخي ذلك أمر الفقهاء فصعدوا المنارة وقت الأذان وقال لهم : مروا المؤذنين يؤذنوا الأذان المشروع ومن امتنع منهم ألقوه من فوق المنارة على رأسه ففعلوا فلم يعد أحد يؤذن على ذلك .
وقال ابن كثير في سنة تسع وسبعمائة : برزت المراسيم السلطانية المظفرية بيبرس إلى نواب البلاد الساحلية بإبطال الخمور وتخريب الحانات ففعل ذلك وفرح المسلمون فرحا كثيرا ولله الحمد .
وقال الذهبي في العبر في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة : خرب البازار المعد للفاحشة ببغداد من أوله إلى آخره ، وما يعلم ما غرم على بنائه إلا الله - تعالى من عظمه - ولله الحمد ، وقال غيره في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة : خرب آل ملك نائب السلطنة خزانة النبوذ وأراق خمورها وكانت دار فسق وفجور ، وقال الحافظ ابن حجر في إنباء الغمر في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة : شدد منجك نائب الشام على أهل اللهو وأمر بقطع الأشجار الصفصاف التي بين النهرين وبتحريق المكان الذي بالسوق الأعلى وأزال المنكرات منه ، ومن الذي فوق الجهة وهدم الأبنية والحوانيت التي هناك .
[ ص: 147 ] قلت : وما زال هذا دأب الخلفاء والملوك سلفا وخلفا من عهد الصحابة وهلم جرا . والعلماء يفتونهم بذلك من غير نكير ، ومن طالع تواريخ الأمة وقف على ذلك وعلمه علم اليقين ، وقد قلت في هذه الواقعة :
يقول ربع الفسق ما مسلم مما له أرصدت يرضاني ولا ترى في الناس ذا مسكة
إلا يرى في الوزن نقصاني وإن يزني أحد راجحا
فالجاهل اللوطي والزاني وقلت إن لم يخل مما به
فالشرع فيه هدم ذا الجاني واستفتى الباني فأفتى بأن
من قال هذا آثم جاني يا أيها الناس ألا فاسمعوا
مقال حق ليس بالواني من ذا الذي أولى بتأثيمه
عند محب كان أوشاني أهادم ربعا بنوه لكي
يعصى به الله أم الباني