بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أحمد الله غافر الزلات ، ومقيل العثرات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الذي أنزل عليه في كتابه العزيز : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) ، وعلى آله وصحبه النجوم النيرات ، فهذا جزء سميته : " تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء " والسبب في تأليفه أنه وقع أن رجلا خاصم رجلا فوقع بينهما سب كثير ، فقذف أحدهما عرض الآخر ، فنسبه الآخر إلى رعي المعزى ، فقال له ذاك : تنسبني إلى رعي المعزى ؟ فقال له والد القائل : الأنبياء رعوا المعزى ، أو ما من نبي إلا رعى المعزى ، وذلك بسوق الغزل ، بجوار الجامع الطولوني ، بحضرة جمع كثير من العوام ، فترافعوا إلى الحكام ، فبلغ الخبر قاضي القضاة المالكي ، فقال : لو رفع إلي ضربته بالسياط ، فسئلت ماذا يلزم الذي ذكر الأنبياء مستدلا بهم في هذا المقام ؟ فأجبت : بأن هذا المستدل يعزر التعزير البليغ ؛ لأن ولم أكن عرفت من هو القائل ذلك ، فبلغني بعد ذلك أنه الشيخ مقام الأنبياء أجل من أن [ ص: 273 ] يضرب مثلا لآحاد الناس شمس الدين الحمصاني إمام الجامع الطولوني ، وشيخ القراء ، وهو رجل صالح في اعتقاده ، فقلت : مثل هذا الرجل تقال عثرته ، وتغفر زلته ، ولا يعزر لهفوة صدرت منه .
وكتبت ثانيا بذلك ، فبلغني أن رجلا استنكر مني هذا الكلام ، وقال : إن هذا القائل لا ينسب إليه في ذلك عثرة ولا ملام ، وإن ذلك من المباح المطلق لا ذنب فيه ولا آثام ، واستفتى على ذلك من لم تبلغه واقعة الحال فخرجوه على ما ذكره القاضي عياض في مذاكرة العلم ؛ لأجل ذكر لفظ الاستدلال في الجواب والسؤال ، فخشيت أن تشرب قلوب العوام هذا الكلام ، فيكثروا من استعماله في المجادلات والخصام ، ويتصرفوا فيه بأنواع من عباراتهم الفاسدة ؛ فيؤديهم إلى أن يمرقوا من دين الإسلام ، فوضعت هذه الكراسة ؛ نصحا للدين وإرشادا للمسلمين والسلام .
ولنبدأ بالفصل الذي ذكره القاضي عياض في الشفا في تقرير ذلك ، فإنه جمع فيه فأوعى ، وحرر فاستوفى ، قال : فصل الوجه الخامس : أن لا يقصد نقصا ، ولا يذكر عيبا ولا سبا ، ولكنه ينزع بذكر بعض أوصافه ، أو يستشهد ببعض أحواله عليه الصلاة والسلام الجائزة عليه في الدين ، على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره أو على التشبه به ، أو عند هضيمة نالته ، أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسي وطريق التحقيق ، بل على قصد الترفيع لنفسه أو غيره ، أو سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه عليه الصلاة والسلام ، أو قصد الهزل والتنذير بقوله كقول القائل : إن قيل في السوء فقد قيل في النبي ، وإن كذبت فقد كذب الأنبياء ، أو إن أذنبت فقد أذنبوا ، وأنا أسلم من ألسنة الناس ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله ، أو قد صبرت كما صبر أولو العزم ، أو كصبر أيوب ، أو قد صبر نبي الله على عداه ، وحلم على أكثر مما صبرت ، وكقول : المتنبي
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
ونحوه من أشعار المتعجرفين في القول المتساهلين في الكلام ، كقول المعري :كنت موسى وافته بنت شعيب غير أن ليس فيكما من فقير
على أن آخر البيت شديد ، وداخل في باب الإزراء والتحقير بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وتفضيل حال غيره عليه ، وكذلك قوله :
لولا انقطاع الوحي بعد محمد قلنا محمد من أبيه بديل
[ ص: 274 ] هو مثله في الفضل إلا أنه لم يأته برسالة جبريل
فصدر البيت الثاني من هذا الفصل شديد ؛ لتشبيهه غير النبي صلى الله عليه وسلم في فضله بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والعجز محتمل لوجهين : أحدهما أن هذه الفضيلة نقصت الممدوح ، والآخر : استغناؤه عنها ، وهذه أشد ، ونحو منه قول الآخر :
وإذا ما رفعت راياته صفقت بين جناحي جبرئيل
وقول الآخر من أهل العصر :
فر من الخلد واستجار بنا فصبر الله قلب رضوان
وكقول حسان المصيصي - من شعراء الأندلس - في ، ووزيره محمد بن عباد المعروف بالمعتمد أبي بكر بن زيدون :
كأن أبا بكر أبو بكر الرضا وحسان حسان وأنت محمد
إلى أمثال هذا ، وإنما كثرنا بشاهدها مع استثقالنا حكايتها ؛ لتعريف أمثلتها ولتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك ، واستخفافهم فادح هذا العبء ، وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر ، وكلامهم فيه بما ليس لهم به علم - ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم - لا سيما الشعراء ، وأشدهم فيه تصريحا وللسانه تسريحا ابن هانئ الأندلسي ، وابن سليمان المعري ، بل قد خرج كثير من كلامهما عن هذا إلى حد الاستخفاف والنقص وصريح الكفر وقد أجبنا عنه .
وغرضنا الآن الكلام في هذا الفصل الذي سقنا أمثلته ، فإن هذه كلها وإن لم تتضمن سبا ، ولا أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصا ولست أعني عجزي بيتي المعري ، ولا قصد قائلها إزراء وغضا ، فما وقر النبوة ، ولا عظم الرسالة ، ولا عزز حرمة الاصطفاء ، ولا عزز حظوة الكرامة ، حتى شبه من شبه في كرامة نالها أو معرة قصد الانتفاء منها ، أو ضرب مثل لتطييب مجلسه ، أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره وشرف قدره ، وألزم توقيره وبره ، ونهى عن جهر القول له ، ورفع الصوت عنده ، فحق هذا إن درئ عنه القتل الأدب والسجن ، وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله ، ومقتضى قبح ما نطق به ومألوف عادته لمثله أو ندوره ، أو قرينة كلامه ، أو ندمه على ما سبق منه ، ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به ، وقد أنكر على الرشيد قوله : [ ص: 275 ] أبي نواس
فإن يك باقي سحر فرعون فيكم فإن عصا موسى بكف خصيب
وقال له : يا ابن اللخناء ، أنت المستهزئ بعصا موسى ، وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته - إلى أن قال : فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه من طريق الفتيا . على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا رحمه الله ، وأصحابه ، ففي النوادر من رواية مالك بن أنس في رجل عير رجلا بالفقر ، فقال : تعيرني بالفقر ، وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم ، فقال ابن أبي مريم مالك : قد عرض بذكر النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضعه ، أرى أن يؤدب ، قال : ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا : قد أخطأت الأنبياء قبلنا .
وقال لرجل : انظر لنا كاتبا يكون أبوه عربيا ، فقال كاتب له : قد كان أبو النبي كافرا ، فقال : جعلت هذا مثلا ، فعزله ، وقال : لا تكتب لي أبدا . عمر بن عبد العزيز
وقد كره أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند التعجب إلا على طريق الثواب والاحتساب ؛ توقيرا له ، وتعظيما كما أمرنا الله ، وقال سحنون القابسي عن رجل قال لرجل قبيح : كأنه وجه نكير ، ولرجل عبوس كأنه وجه مالك الغضبان ، وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء ، وإن قصد ذم الملك قتل ، وقال أيضا في شاب معروف بالخير قال لرجل شيئا ، فقال له الرجل : اسكت ؛ فإنك أمي ، فقال الشاب : أليس كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا ؟ فشنع عليه مقاله وكفره الناس ، وأشفق الشاب مما قال وأظهر الندم عليه ، فقال أبو الحسن : أما إطلاق الكفر عليه فخطأ ، لكنه مخطئ في استشهاده بصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكون النبي أميا آية له ، وكون هذا أميا نقيصة [ فيه ] وجهالة ، ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه إذا استغفر وتاب واعترف ولجأ إلى الله فيترك ؛ لأن قوله لا ينتهي إلى حد القتل ، وما طريقة الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه .
ونزلت أيضا مسألة استفتى فيها بعض قضاة الأندلس شيخنا القاضي أبا محمد بن منصور - رحمه الله - في رجل تنقصه آخر بشيء ، فقال له : إنما تريد نقصي بقولك وأنا بشر وجميع البشر يلحقهم النقص ، حتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأفتاه بإطالة سجنه ، وإيجاع أدبه إذ لم يقصد السب ، وكان بعض الفقهاء بالأندلس أفتى بقتله - هذا كله كلام القاضي عياض في الشفا - ويفطن لقوله في أول الفصل على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره ، كيف سوى في الحكم بين ضارب المثل والمحتج ؟ والمحتج : هو المستدل ، ومراده المستدل في الخصومات والتبري من المعرات ، وكذلك قوله : ينزع بذكر بعض أوصافه ، أو يستشهد ببعض أحواله ، فإن الاستشهاد بمعنى الاستدلال ، وكذلك قوله في آخر الفصل : لكنه مخطئ في استشهاده بصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : ومن جهالته احتجاجه [ ص: 276 ] بصفة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذه المواضع كلها صريحة في تخطئة المستدل في مثل هذا المقام ووجوب تأديبه ، وإنما نبهت على هذا ؛ لأنه أنكر على ذكر لفظ المستدل في الإفتاء وليس بمنكر ، فإن المستدل تارة يكون في مقام التدريس والإفتاء والتصنيف وتقرير العلم بحضرة أهله ، وهذا لا إنكار عليه كما سيأتي ، وتارة يكون في الخصام والتبري من معرة أو نقص ينسب إليها هو أو غيره ، وهذا محل الإنكار والتأديب لا سيما إذا كان بحضرة العوام وفي الأسواق ، وفي التعارض بالسب والقذف ونحو ذلك ، ولكل مقام مقال ، ولكل محل حكم يناسبه .
وكذلك الأثر الذي أشار إليه القاضي عن كاتب ، فإنه ما قصد بما ذكره إلا الاحتجاج على أنه لا ينقصه كفر أبيه والاستدلال عليه ، ومع ذلك أنكره عليه عمر بن عبد العزيز عمر ، وصرفه عن عمله ، أخبرني شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام علم الدين بن شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني الشافعي - رحمه الله - إجازة عن أبيه شيخ الإسلام : أن الشيخ تقي الدين السبكي أخبره عن الحافظ شرف الدين الدمياطي ، أنا الحافظ ، أنا أبو يوسف بن خليل المكارم اللبان ، أنا أبو علي الحداد ، أنا الحافظ ، ثنا أبو نعيم الأصبهاني عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا أحمد بن الحسن الحذاء ، ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : سمعت بعض شيوخنا يذكر أن أتى بكاتب يخط بين يديه وكان مسلما ، وكان أبوه كافرا ، فقال عمر بن عبد العزيز عمر للذي جاء به : لو كنت جئت به من أبناء المهاجرين ، فقال الكاتب : ما ضر رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر أبيه ، فقال عمر : وقد جعلته مثلا لا تخط بين يدي بقلم أبدا - هكذا أخرجه في الحلية ، فالكاتب قصد بهذا الكلام الاحتجاج ، والاستدلال على نفي النقص عنه ، وقد قال عمر في الرد عليه : إنه جعله مثلا ، فعلم أن المستدل لا منافاة بينه وبين ضارب المثل ، والجامع بينهما : أن ضرب المثل يراد للاستشهاد ، كما أن الاستدلال كذلك ، فبهذا القدر المشترك يصح إطلاق المستدل على ضارب المثل وعكسه ، ومن له إلمام بالأحاديث والآثار وكلام المتقدمين لا يستنكر ذلك ، فإنهم كثيرا ما يطلقون ضرب المثل على الحجة ؛ ولهذا سوى بينهما القاضي عياض ، حيث قال : على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره .
ومما أطلق فيه الأولون : ضرب المثل على الحجة ما أخرجه وغيره عن ابن ماجه أبي سلمة أن قال لرجل : يا ابن أخي ، إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فلا تضرب له الأمثال ، وكان عارضه بقياس من الرأي ، كما في بعض طرق الحديث عند [ ص: 277 ] أبا هريرة الهروي في ذم الكلام ، أي فلا تقابله بحجة من رأيك ، فأطلق على الحجة والاستدلال ضرب المثل ، واللغة أيضا تشهد لذلك ، قال في الصحاح : ضرب مثلا وصف وبين ، وقال أبو هريرة ابن الأثير في النهاية : ضرب الأمثال اعتبار الشيء بغيره ، وتمثيله به ، وإنما حكمت في الإفتاء على لفظ المستدل ، وعللته بضرب المثل ؛ لأعرف أن المستدل الذي حكمت عليه هو المحتج بضرب ذلك مثلا للغير ، لا المستدل في الدرس والتصنيف ، ومذاكرة العلم بين أهله ؛ فإن ذلك لا يسمى في عرف العلماء ضرب مثل .
وقصدت أيضا الاقتداء بالخليفة الصالح في لفظه ، وقد وجدت للقصة طريقا آخر قال عمر بن عبد العزيز الهروي في ذم الكلام : أنا أبو يعقوب ، أنا أبو بكر بن أبي الفضل ، أنا أحمد بن محمد بن يونس ، ثنا عثمان بن سعيد ، ثنا يونس العسقلاني ، ثنا ضمرة ثنا علي بن أبي جميلة قال : قال عمر بن عبد العزيز لسليمان بن سعد : بلغني أن أبا عاملنا بمكان كذا وكذا زنديق قال : هو ما يضره ذلك يا أمير المؤمنين ، قد كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم كافرا فما ضره ، فغضب عمر غضبا شديدا ، وقال : ما وجدت له مثلا غير النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : فعزله عن الدواوين .