[ ص: 305 ] 32 - رفع الباس وكشف الالتباس في ضرب المثل من القرآن والاقتباس
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة : استعمال ألفاظ القرآن في المحاورات والمخاطبات والمجاوبات والإنشاءات ، والخطب ، والرسائل ، والمقامات مرادا بها غير المعنى الذي أريدت به في القرآن ، يسمى عند الصدر الأول من الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم من الأئمة والعلماء ضرب مثل وتمثلا واستشهادا إذا كان في النثر ، وقد يسمى اقتباسا بحسب اختلاف المورد ، فإذا كان في الشعر سمي اقتباسا لا غير ، فأما الأول ، وهو الذي في النثر ، سواء كان تمثلا أو اقتباسا فجائز في مذهبنا بلا خلاف عندنا - نص عليه الأصحاب إجمالا وتفصيلا - واستعملوه في خطبهم وإنشائهم ورسائلهم ومقاماتهم .
أما النصوص فقالوا في باب الغسل : إنه يجوز ، وقالوا في باب شروط الصلاة : إن للجنب أن يورد ألفاظ القرآن لا بقصد القرآن ، بل بقصد التفهيم فقط بطلت صلاته ، فإن قصد القراءة والتفهيم معا لم تبطل ، ولم يحكوا في المسألة خلافا . المصلي لو نطق بنظم القرآن لا بقصد القرآن
قال النووي في شرح المهذب في باب الغسل ما نصه : قال أصحابنا : ولو خذ الكتاب بقوة ) ولم يقصد القرآن جاز ، وكذا ما أشبهه ، وقال قال لإنسان : ( الرافعي في الشرح : وأما إذا قرأ شيئا منه لا على قصد القرآن فيجوز ، وفي الروضة مثله ، وقال الأسنوي في شرح المنهاج عند قوله : ويحل إذا كان لا بقصد قرآن ، هذا الحكم لا يختص بأذكار القرآن ، بل يأتي أيضا في مواعظه وأحكامه وأخباره وغير ذلك ، كما دل عليه كلام الرافعي ، فإنه عبر بقوله : أما إذا قرأ شيئا منه لا على قصد القرآن ، فيجوز هذه عبارته ، وذكر مثلها في الروضة ، وصرح القاضي أبو الطيب في تعليقه بالأوامر انتهى .
وقال الرافعي في باب شروط الصلاة : إذا لم يضر ، وإن قصد مع القراءة شيئا آخر كتنبيه الإمام أو غيره ، والفتح على من ارتج عليه ، وتفهيم الأمر من الأمور مثل أن أتى المصلي بشيء من نظم القرآن قاصدا به القراءة ادخلوها بسلام آمنين ) ، أو يقول : ( يقول لجماعة يستأذنون في الدخول : ( يايحيى خذ الكتاب بقوة ) وما أشبه ذلك ، ولا فرق بين أن يكون منتهيا في قراءته إلى تلك الآية ، أو ينشئ قراءتها حينئذ ، وقال : إذا قصد شيئا آخر سوى القراءة بطلت صلاته إلا أن يريد تنبيه الإمام ، والمار بين يديه ، وإن لم يقصد إلا الإفهام ، والإعلام فلا خلاف في بطلان الصلاة ، كما لو أفهم بعبارة أخرى انتهى . أبو حنيفة
[ ص: 306 ] وذكر مثله في الشرح الصغير ، والمحرر ، وذكر النووي مثله في الروضة ، وشرح المهذب ، والمنهاج ، وإنما بدأت بنقل كلام الشيخين ؛ لأن الاعتماد الآن في الفتيا على كلامهما ، وإلا فالمسألة متفق عليها بين الأصحاب ، قال إمام الحرمين في النهاية في باب شروط الصلاة : ولو قرأ المصلي آية ، أو بعضا من آية ، فأفهم بها كلاما مثل أن يقول : خذها بقوة ، أو يقول : وقد حضر جمع فاستأذنوا ادخلوها بسلام فإن لم تخطر له قراءة القرآن ، ولكن جرد قصده إلى الخطاب بطلت صلاته ، وإن قصد القراءة ، ولم يخطر له إفهام أحد بحيث لو دخلوا لم يرد دخولهم من معنى قوله فلا شك أن صلاته لا تبطل .
وإن قصد قراءة القرآن وقصد إفهامهم فالذي قطع به الأئمة : أن الصلاة لا تبطل ، وقال : تبطل الصلاة بهذا ، وقال في باب الغسل : لو قال الجنب شيئا من القرآن ، وقصد به غير القرآن لم يعص ، وإن أجراه على لسانه ولم يقصد قراءة ولا غيرها فقد كان شيخي يقول : لا يعصي وهذا مقطوع به انتهى . أبو حنيفة
وقال في التهذيب : لو قال الجنب شيئا من القرآن لا بقصد قراءة القرآن فإنه يجوز ، وكذلك لو تكلم بكلمة توافق نظم القرآن ، وقال في باب شروط الصلاة : ولو تكلم بكلام موافق نظمه نظم القرآن ، مثل أن دق رجل الباب ، قال : ادخلوها بسلام ، أو أراد دفع كتاب ، فقال : يا يحيى خذ الكتاب نظر إن لم يكن قصد به قراءة القرآن بطلت صلاته ، وإن قصد قراءة القرآن وإعلامه لا تبطل ، وعند البغوي تبطل . أبي حنيفة
وقال في البسيط : إذا أتى الجنب بالقرآن على قصد غيره لا يعصي فإن لم يقصد لا القراءة ولا غيرها قال الغزالي الشيخ أبو محمد : لا يعصي ؛ لأن قصده معتبر في هذا الجنس ، وقال في باب شروط الصلاة : إذا استأذن جمع وهو في الصلاة ، فقال : ادخلوها بسلام ، أو قال : خذها بقوة أو غير ذلك من خطاب الآدميين ، فإن قصد التفهيم دون القراءة بطلت صلاته ، وإن قصد القراءة دون التفهيم لم تبطل ، وإن قصدهما جميعا ، قال أصحابنا : لا تبطل ، وقال : تبطل . أبو حنيفة
وقال المتولي في التتمة الخامسة : إذا ، مثل إن دق الباب فقرأ قوله تعالى : ( نابه أمر في الصلاة ، فتلا آية من القرآن يحصل بها تنبيه الغير على بعض الأمور ادخلوها بسلام آمنين ) ، أو رأى إنسانا اسمه موسى ، يمشي بالنعل على بساطه ، فقرأ قوله تعالى : ( فاخلع نعليك ) ، فإن قصد به التنبيه تبطل الصلاة ؛ لأن هذا خطاب وافق نظم القرآن ، وإن قصد القراءة لا تبطل صلاته ، وإن تضمن ذلك تنبيها ، وقال : تبطل ، ودليلنا ما روي أن أبو حنيفة عليا - رضي الله عنه - كان يصلي في مسجد الكوفة ، فدخل عليه رجل من الخوارج ، فعرض به ، وقال : لا حكم إلا لله ورسوله ، [ ص: 307 ] وقصد الإنكار حيث رضي التحكيم ، فتلا علي : ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) ، فلما سلم قال : كلمة حق أريد بها باطل ، ولو كان ذلك يبطل الصلاة لما أقدم عليه علي - رضي الله عنه - ونقول الأصحاب في ذلك لا تحصى ، وفيما أوردناه كفاية .
وقال النووي في التبيان : فصل في ، ذكر قراءة القرآن يراد بها الكلام ابن أبي داود في هذا اختلافا ، فروي عن أنه كان يكره أن يتناول القرآن لشيء يعرض من أمر الدنيا ، وعن إبراهيم النخعي أنه قرأ في صلاة المغرب عمر بن الخطاب بمكة : والتين والزيتون وطور سينين ثم رفع صوته : وهذا البلد الأمين .
وعن حكيم - بضم الحاء - بن سعد أن رجلا من المحكمة أتى عليا - رضي الله عنه - وهو في صلاة الصبح ، فقال : لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، فأجابه علي وهو في الصلاة ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) ، قال أصحابنا : إذا استأذن إنسان على المصلي ، فقال المصلي : ادخلوها بسلام آمنين فإن أراد التلاوة ، أو التلاوة والإعلام لم تبطل صلاته ، وإن أراد الإعلام ، أو لم تحضره نية بطلت صلاته ، انتهى كلام النووي في التبيان .
فانظر كيف أخذ حكم المسألة مما ذكره الأصحاب في المصلي ، والأثر المذكور عن علي أخرجه في المصنف ، ابن أبي شيبة في سننه ، وترجم عليه " باب ما يجوز من قراءة القرآن في الصلاة يريد به جوابا أو تنبيها " . والبيهقي