مسألة : فيما نقله في الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة من الإمام الغزالي : وذلك أن إبليس لعنه الله وكل أعوانه واستعملهم بالميت ، فيأتونه على صفة أبويه على صفة اليهودية فيقولان له : مت يهوديا ، فإن انصرف عنهم جاء أقوام آخرون على صفة فتنة الموت النصارى ، حتى يعرض عليه كل عقائد كل ملة ، فمن أراد الله هدايته أرسل إليه جبريل فيطرد الشيطان وجنده ، فيبتسم الميت ويقول : من أنت الذي من الله علي بك في دار غربتي ؟ فيقول : أنا جبريل ، وهؤلاء أعداؤك من الشياطين ، مت على الملة الحنيفية والشريعة المحمدية ، فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح منه بذلك ، وهو معنى قوله تعالى : ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) . وقال رجل : الدرة الفاخرة موضوعة على ، وليس لها محل من الإحياء ، وإن الغزالي جبريل لم ينزل إلى الأرض بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحتج له بحديث رواه عن أن أبي هريرة جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد ، ربك يقرئك السلام ويقول : كيف تجدك ؟ قال : أجدني يا أمين الله وجعا ، من هذا معك ؟ قال : ملك الموت ، وهذا آخر عهدي بالدنيا بعدك وآخر عهدك بها ، ولن آسى على شيء هالك من بني آدم بعدك ، ولن أهبط إلى الأرض بعدك لأحد أبدا . فهل الدرة موضوعة على أم لا ؟ وهل الحديث المعارض له صحيح أم لا ؟ وهل الغزالي جبريل ينزل لعيسى ابن مريم عند نزوله من السماء أم لا ؟ وهل يرد كلام بالحديث المعارض أم لا ؟ الغزالي
[ ص: 458 ] الجواب : أما ، وإنما ورد ما يقرب منه ، فأخرج المذكور أولا من فتنة الموت إلى آخره ، فلم أقف عليه في الحديث هكذا أبو نعيم في الحلية من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " واثلة بن الأسقع احضروا موتاكم ولقنوهم لا إله إلا الله ، وبشروهم بالجنة ؛ فإن الحليم من الرجال والنساء يتحيرون عند ذلك المصرع ، وإن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع " ، وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده من مرسل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عطاء بن يسار معالجة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف ، وما من مؤمن يموت إلا وكل عرق منه يألم على حدة ، وأقرب ما يكون عدو الله منه تلك الساعة " مرسل جيد الإسناد . وأخرج في ذكر الموت من طريق آخر مرسلا نحوه ، فهذا ما وقفت عليه من الأحاديث الدالة على حضور الشيطان عند الموت ، وأما حضور ابن أبي الدنيا جبريل فأخرج في الكبير الطبراني ميمونة بنت سعد قالت : قلت : يا رسول الله ، أينام الجنب ؟ قال : " ما أحب أن ينام حتى يتوضأ ؛ إني أخاف أن يتوفى فلا يحضره جبريل " ، دل هذا الحديث بمفهومه على أن عن جبريل عليه السلام يحضر الموتى ، خصوصا من كان على طهارة ، واستفدنا منه أن طهارة الجنابة كافية في حضوره ، وأنه لا يشترط طهارة الحدث الأصغر ، وأن الجنب إذا توضأ يرجى له الاكتفاء بذلك وحضوره .
وأما قول من قال : إن الدرة الفاخرة موضوعة على ، فليس كما قال ، فقد نسبها إليه الأكابر ، منهم الغزالي القرطبي في التذكرة ، وينقل منها الصفحة والورقة بحروفها ، ومنهم خاتمة الحفاظ أبو الفضل ابن حجر في تخريج أحاديث الشرح الكبير . نعم الدرة الموجودة الآن مشتملة على ألفاظ ركيكة وأشياء غير مستقيمة الإعراب ، والذي يظهر أن ذلك من تغيير النساخ لكثرة تداول أيدي العوام عليها ، فزادوا فيها ونقصوا وحرفوا وغيروا ، وقد نقل الحافظ ابن حجر في التخريج عنها شيئا ليس موجودا فيها الآن ، فكأنه مما أسقطه النساخ ، وقد أمليت عليها تخريجا في خمسين مجلسا في سنة أربع وسبعين ، حررت فيه ما وقع فيها من الأحاديث والآثار ، وبينت ما له أصل وما لا أصل له .
وأما جبريل : هذا آخر وطأتي بالأرض ، فضعيف جدا ، ولو صح لم يكن فيه معارضة ؛ لأنه يحمل على أنه آخر عهده بإنزال الوحي . وأما نزوله ليلة القدر مع الملائكة فذكره جماعة من المفسرين في قوله تعالى : ( حديث الوفاة وقول تنزل الملائكة والروح فيها ) قالوا : المراد بالروح جبريل ، وروى فيه من حديث مرفوعا [ ص: 459 ] " أنس جبريل في كبكبة من السماء يصلون ويسلمون على كل قائم أو قاعد يذكر الله تعالى إذا كانت ليلة القدر نزل " .
وأما عيسى عليه السلام فأخرج نزوله على في صحيحه من حديث مسلم النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ، فذكر الحديث في قصة الدجال ونزول عيسى وقتله إياه ، قال : " عيسى : إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد في قتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج " الحديث ، فقوله : أوحى الله إلى فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى ، ظاهر في نزول جبريل إليه .
وأما قوله : وهل يرد كلام بالحديث المعارض ، فقد تبين أنه لا معارضة لعدم صحة الحديث أصلا ، ثم يحمله على ما ذكرناه كما تقدم . الغزالي