( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين )
قوله تعالى : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ) .
اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد ، والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت إليها ، وإنما ، ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله بأحد ، لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة ، وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ، فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل . فهذا بيان وجه النظم ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ولا تحسبن الذين كفروا . ولا تحسبن الذين يبخلون . لا تحسبن الذين يفرحون . فلا تحسبنهم " في الأربعة بالتاء وضم الباء في قوله ( تحسبنهم ) وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله : " فلا تحسبنهم " [ آل عمران : 188 ] فإنه بالتاء ، وقرأ حمزة كلها بالتاء ، واختلاف القراء في فتح السين وكسرها قدمناه في سورة البقرة ، أما الذين قرءوا بالياء المنقطة من تحت : [ ص: 87 ] فقوله : ( يحسبن ) فعل ، وقوله : ( الذين كفروا ) فاعل يقتضي مفعولين أو مفعولا يسد مسد مفعولين نحو حسبت ، وقوله : حسبت أن زيدا منطلق ، وحسبت أن يقوم عمرو ، فقوله في الآية : ( أنما نملي لهم خير لأنفسهم ) يسد مسد المفعولين ، ونظيره قوله تعالى : ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون ) [ الفرقان : 44 ] وأما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فأحسن ما قيل فيه ما ذكره الزجاج ، وهو أن ( الذين كفروا ) نصب بأنه المفعول الأول ، و ( أنما نملي لهم ) بدل عنه . و ( خير لأنفسهم ) هو المفعول الثاني ، والتقدير : ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا لهم . ومثله مما جعل " أن " مع الفعل بدلا من المفعول قوله تعالى : ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) [ الأنفال : 7 ] فقوله : ( أنها لكم ) بدل من إحدى الطائفتين .
المسألة الثانية : " ما " في قوله : ( أنما ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون بمعنى ( الذي ) فيكون التقدير : لا تحسبن الذين كفروا أن الذي نمليه خير لأنفسهم ، وحذف الهاء من " نملي " لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك : الذي رأيت زيد .
والآخر : أن يقال : " ما " مع ما بعدها في تقدير المصدر ، والتقدير : لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير .
المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : " ما " مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة ، واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب ، وأما في قوله : ( أنما نملي لهم ) فههنا يجب أن تكون متصلة لأنها كافة بخلاف الأولى .
المسألة الرابعة : معنى " نملي " نطيل ونؤخر ، والإملاء الإمهال والتأخير ، قال الواحدي - رحمه الله - : واشتقاقه من الملوة وهي المدة من الزمان ، يقال : ملوت من الدهر ملوة وملوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد ، قال : يقال : أملى عليه الزمان أي طال ، وأملى له أي طول له وأمهله ، قال الأصمعي أبو عبيدة : ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة والملوان الليل والنهار .