قوله تعالى : ( لا ريب فيه ) فيه مسألتان :
المسألة الأولى : الريب قريب من الشك ، وفيه زيادة ، كأنه ظن سوء ، تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوءا ، ومنها قوله عليه السلام : " " فإن قيل : قد يستعمل الريب في قولهم : " ريب الدهر " و " ريب الزمان " أي حوادثه قال الله تعالى : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك نتربص به ريب المنون ) [الطور : 30] ويستعمل أيضا في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر :
قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
قلنا : هذان قد يرجعان إلى معنى الشك ، لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل ، فهو كالمشكوك فيه ، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن ، فقوله تعالى : ( لا ريب فيه ) المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه ، والمقصود أنه لا شبهة في صحته ، ولا في كونه من عند الله ، ولا في كونه معجزا . ولو قلت : المراد لا ريب في كونه معجزا على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) [البقرة : 23] وههنا سؤالات :
السؤال الأول : طعن بعض الملحدة فيه فقال : إن عنى أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه ، وإن عنى أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه . الجواب : المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه ، والأمر كذلك ؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن ، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه .
السؤال الثاني : لم قال ههنا : ( لا ريب فيه ) وفي موضع آخر ( لا فيها غول ) [الصافات : 47] ؟ الجواب : لأنهم يقدمون الأهم فالأهم ، وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب ، ولو قلت : لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتابا آخر حصل الريب فيه لا ههنا ، كما قصد في قوله : ( لا فيها غول ) تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا ، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا .
السؤال الثالث : من أين يدل قوله : ( لا ريب فيه ) على نفي الريب بالكلية ؟ الجواب : قرأ أبو الشعثاء ( لا ريب فيه ) بالرفع . واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية ، والدليل عليه أن قوله : ( لا ريب ) نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية ، لأنه لو ثبت فرد من [ ص: 19 ] أفراد الماهية لثبتت الماهية ، وذلك يناقض نفي الماهية ، ولهذا السر كان قولنا : " لا إله إلا الله " نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى . وأما قولنا : " لا ريب فيه " بالرفع فهو نقيض لقولنا : " ريب فيه " وهو يفيد ثبوت فرد واحد ، فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض .
الوقف على " فيه " :
المسألة الثانية : الوقف على ( فيه ) هو المشهور ، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على ( لا ريب ) ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا ، ونظيره قوله : ( قالوا لا ضير ) [الشعراء : 50] وقول العرب : لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز ؛ والتقدير : ( لا ريب فيه فيه هدى ) . واعلم أن القراءة الأولى أولى ؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى ، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى ، بل يكون فيه هدى ، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى ، والله أعلم .