قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون )
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين ، وذلك لأنه سبحانه لما نهاهم في الآية المتقدمة عن الفساد في الأرض أمرهم في هذه الآية بالإيمان ؛ لأن كمال حال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين : أولهما : ترك ما لا ينبغي وهو قوله : ( آمنوا ) وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قوله : " وإذا قيل لهم آمنوا " أي إيمانا مقرونا بالإخلاص بعيدا عن النفاق ، ولقائل أن يستدل بهذه الآية على أن مجرد الإقرار إيمان ، فإنه لو لم يكن إيمانا لما تحقق مسمى الإيمان إلا إذا حصل فيه الإخلاص ، فكان قوله : ( آمنوا ) كافيا في تحصيل المطلوب ، وكان ذكر قوله : ( كما آمن الناس ) لغوا ، والجواب : أن ، أما في الظاهر فلا سبيل إليه إلا بإقرار الظاهر فلا جرم افتقر فيه إلى تأكيده بقوله : ( الإيمان الحقيقي عند الله هو الذي يقترن به الإخلاص كما آمن الناس ) .
المسألة الثانية : اللام في ( الناس ) فيها وجهان : أحدهما : أنها للعهد أي كما آمن رسول الله ومن معه ، وهم ناس معهودون ، أو وأشياعه ؛ لأنهم من أبناء جنسهم ، والثاني : أنها للجنس ثم ههنا أيضا وجهان : عبد الله بن سلام
أحدهما : أن الأوس والخزرج أكثرهم كانوا مسلمين ، وهؤلاء المنافقون كانوا منهم وكانوا قليلين ، ولفظ العموم قد يطلق على الأكثر .
والثاني : أن المؤمنين هم الناس في الحقيقة ؛ لأنهم هم الذين أعطوا الإنسانية حقها ؛ لأن فضيلة الإنسان على سائر الحيوانات بالعقل المرشد والفكر الهادي .
المسألة الثالثة : القائل : ( وإذا قيل لهم آمنوا ) إما الرسول ، أو المؤمنون ، ثم كان بعضهم يقول [ ص: 62 ] لبعض : أنؤمن كما آمن سفيه بني فلان وسفيه بني فلان ، والرسول لا يعرف ذلك فقال تعالى : ( ألا إنهم هم السفهاء ) .
المسألة الرابعة : السفه الخفة يقال : سفهت الريح الشيء إذا حركته ، قال : ذو الرمة
فجرين كما اهتزت رياح تسفهت أعاليها مر الرياح الرواسم
وقال : أبو تمام الطائي
فسفيه الرمح جاهله إذا ما بدا فضل السفيه على الحليم
أراد به سريع الطعن بالرمح خفيفه ، وإنما قيل لبذيء اللسان سفيه ؛ لأنه خفيف لا رزانة له وقال تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) [النساء : 5] وقال عليه السلام : " شارب الخمر سفيه " لقلة عقله ، وإنما سمى المنافقون المسلمين بالسفهاء ؛ لأن المنافقين كانوا من أهل الخطر والرياسة ، وأكثر المؤمنين كانوا فقراء ، وكان عند المنافقين أن دين محمد صلى الله عليه وسلم باطل ، والباطل لا يقبله إلا السفيه ؛ فلهذه الأسباب نسبوهم إلى السفاهة ، ثم إن الله تعالى قلب عليهم هذا اللقب ، وقوله الحق لوجوه :
أحدها : أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه .
وثانيها : أن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه .
وثالثها : أن من عادى محمدا عليه الصلاة والسلام فقد عادى الله ، وذلك هو السفيه .
المسألة الخامسة : إنما قال في آخر هذه الآية : ( لا يعلمون ) وفيما قبلها : ( لا يشعرون ) لوجهين : الأول : أن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري ، وأما أن فضروري جار مجرى المحسوس . النفاق وما فيه من البغي يفضي إلى الفساد في الأرض
الثاني : أنه ذكر السفه وهو جهل ، فكان ذكر العلم أحسن طباقا له والله أعلم .