ثم قال تعالى :( وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ) وفيه مسائل :
[ ص: 151 ]
المسألة الأولى : قال - رضي الله عنهما - : الغيب ما يسرونه ، والشهادة ما يظهرونه . وأقول : لا يبعد أن يكون الغيب ما حصل في قلوبهم من الدواعي والصوارف ، والشهادة الأعمال التي تظهر على جوارحهم ، وأقول أيضا مذهب حكماء الإسلام أن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسات ، وعندهم أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول . فوجب كون العلم بالغيب سابقا على العلم بالشهادة ، فلهذا السبب أينما جاء هذا الكلام في القرآن كان الغيب مقدما على الشهادة . ابن عباس
المسألة الثانية : إن حملنا قوله تعالى :( فسيرى الله عملكم ) على الرؤية ، فحينئذ يظهر أن معناه مغاير لمعنى قوله :( وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ) وإن حملنا تلك الرؤية على العلم أو على إيصال الثواب جعلنا قوله :( وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ) جاريا مجرى التفسير لقوله :( فسيرى الله عملكم ) معناه : بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدنيا ، أو بإظهار أضدادها . وقوله :( وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ) معناه : ما يظهر في القيامة من حال الثواب والعقاب .
ثم قال :( فينبئكم بما كنتم تعملون ) والمعنى يعرفكم أحوال أعمالكم ثم يجازيكم عليها ، لأن ؛ ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم ، فإن كان من أهل الثواب كان فرحه وسعادته أكثر ، وإن كان من أهل العقاب كان غمه وخسرانه أكثر . وقال حكماء الإسلام ، المراد من قوله تعالى :( المجازاة من الله تعالى لا تحصل في الآخرة إلا بعد التعريف فسيرى الله عملكم ) الإشارة إلى الثواب الروحاني ، وذلك لأن العبد إذا تحمل أنواعا من المشاق في الأمور التي أمره بها مولاه ، فإذا علم العبد أن مولاه يرى كونه متحملا لتلك المشاق ، عظم فرحه وقوي ابتهاجه بها ، وكان ذلك عنده ألذ من الخلع النفيسة والأموال العظيمة .
وأما قوله :( وستردون إلى عالم الغيب والشهادة ) فالمراد منه تعريف عقاب الخزي والفضيحة . ومثاله أن العبد الذي خصه السلطان بالوجوه الكثيرة من الإحسان إذا أتى بأنواع كثيرة من المعاصي ، فإذا حضر ذلك العبد عند ذلك السلطان وعدد عليه أنواع قبائحه وفضائحه ، قوي حزنه وعظم غمه وكملت فضيحته ، وهذا نوع من العذاب الروحاني ، وربما رضي العاقل بأشد أنواع العذاب الجسماني حذرا منه . والمقصود من هذه الآية تعريف هذا النوع من العقاب الروحاني ، نسأل الله العصمة منه ومن سائر العذاب .