قلنا : البغي قد يكون بالحق ، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة . ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال : ( ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الأكثرون : (متاع) برفع العين ، وقرأ حفص عن عاصم : ( متاع ) بنصب العين ، أما الرفع ففيه وجهان ، الأول : أن يكون قوله : ( بغيكم على أنفسكم ) مبتدأ ، وقوله : (متاع الحياة الدنيا) خبرا . والمراد من قوله : ( بغيكم على أنفسكم ) بغي بعضكم على بعض ، كما في قوله : ( فاقتلوا أنفسكم ) [ البقرة : 54 ] ومعنى الكلام أن بغي بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها . والثاني : أن قوله : ( بغيكم ) مبتدأ ، وقوله : ( على أنفسكم ) خبره ، وقوله : (متاع الحياة الدنيا) خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : هو متاع الحياة الدنيا . وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول : إن قوله : ( بغيكم ) مبتدأ ، وقوله : ( على أنفسكم ) خبره ، وقوله : ( متاع الحياة الدنيا ) في موضع المصدر المؤكد ، والتقدير : تتمتعون متاع الحياة الدنيا .
المسألة الثانية : . قال عليه الصلاة والسلام : " البغي من منكرات المعاصي " وروي : " أسرع الخير ثوابا صلة الرحم ، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة ثنتان يعجلهما الله في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين " وعن رضي الله عنهما : لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي . وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه : ابن عباس
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة فاربع فخير فعال المرء أعدله فلو بغى جبل يوما على جبل
لاندك منه أعاليه وأسفله
وعن : ثلاث من كن فيه كن عليه : البغي والنكث والمكر ، قال تعالى : ( محمد بن كعب القرظي إنما بغيكم على أنفسكم ) .
المسألة الثالثة : حاصل الكلام في قوله تعالى : ( ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ) أي : لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة ، وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها ( ثم إلينا ) أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم ( مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) في الدنيا ، والإنباء هو الإخبار ، وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره : سأخبرك بما فعلت .