الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما الأحكام المفرعة على كونه مالكا فهي أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            الحكم الأول : قراءة المالك أرجى من قراءة الملك ؛ لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأسا برأس ، أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية فكأنه تعالى يقول : أنا مالككم فعلي طعامكم وثوابكم وجنتكم .

                                                                                                                                                                                                                                            الحكم الثاني : الملك وإن كان أغنى من المالك غير أن الملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه ، وليست لنا طاعات ولا خيرات فلا يريد أن يطلب منا يوم القيامة أنواع الخيرات والطاعات ، بل يريد أن نطلب منه يوم القيامة الصفح والمغفرة وإعطاء الجنة بمجرد الفضل ، فلهذا السبب قال الكسائي : اقرأ " مالك يوم الدين " ؛ لأن هذه القراءة هي الدالة على الفضل الكثير والرحمة الواسعة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحكم الثالث : أن الملك إذا عرض عليه العسكر لم يقبل إلا من كان قوي البدن صحيح المزاج ، أما من كان مريضا فإنه يرده ولا يعطيه شيئا من الواجب ، أما المالك إذا كان له عبد فإن مرض عالجه وإن ضعف أعانه وإن وقع في بلاء خلصه ، فالقراءة بلفظ المالك أوفق للمذنبين والمساكين .

                                                                                                                                                                                                                                            الحكم الرابع : الملك له هيبة وسياسة ، والمالك له رأفة ورحمة ، واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثالثة : الملك عبارة عن القدرة ، فكونه مالكا وملكا عبارة عن القدرة ، ههنا بحث : وهو أنه تعالى إما أن يكون ملكا للموجودات أو للمعدومات ، والأول باطل ، لأن إيجاد الموجودات محال فلا قدرة لله على الموجودات إلا بالإعدام ، وعلى هذا التقرير فلا مالك إلا للعدم ، والثاني باطل أيضا ؛ لأنه يقتضي أن تكون قدرته وملكه على العدم ويلزم أن يقال : إنه ليس لله في الموجودات مالكية ولا ملك وهذا بعيد .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب أن الله تعالى مالك الموجودات وملكها ، بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم ، أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة ، وهذه القدرة ليست إلا لله تعالى ، فالملك الحق هو الله سبحانه وتعالى ، إذا عرفت أنه الملك الحق فنقول : إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا لله ، والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا لله ، فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا الله ، وتمام الكلام في هذا الفصل متعلق بمسألة الحشر والنشر .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : إن المالك لا يكون مالكا للشيء إلا إذا كان المملوك موجودا ، والقيامة غير موجودة في الحال ، فلا يكون الله مالكا ليوم الدين ، بل الواجب أن يقال : مالك يوم الدين ، بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيد ، فهذا إقرار ، ولو قال أنا قاتل زيدا بالتنوين كان تهديدا ووعيدا .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الحق ما ذكرتم ، إلا أن قيام القيامة لما كان أمرا حقا لا يجوز الإخلال في الحكمة جعل وجود [ ص: 196 ] القيامة كالأمر القائم في الحال الحاصل في الحال ، وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الرابعة : أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة : الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، والمالك . والسبب فيه كأنه يقول : خلقتك أولا فأنا إله ، ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب ، ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن ، ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم ، ثم لا بد من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية مرة واحدة وفي السورة مرة ثانية ، فالتكرير فيهما حاصل وغير حاصل في الأسماء الثلاثة فما الحكمة ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : التقدير كأنه قيل : اذكر أني إله ورب مرة واحدة ، واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره قوله تعالى : ( غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ) [ غافر : 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الخامسة : قالت القدرية : إن كان خالق أعمال العباد هو الله امتنع القول بالثواب والعقاب والجزاء ؛ لأن ثواب الرجل على ما لم يعمله عبث ، وعقابه على ما لم يعمله ظلم ، وعلى هذا التقدير فيبطل كونه مالكا ليوم الدين ، وقالت الجبرية : لو لم تكن أعمال العباد بتقدير الله وترجيحه لم يكن مالكا لها ، ولما أجمع المسلمون على كونه مالكا للعباد ولأعمالهم ؛ علمنا أنه خالق لها مقدر لها والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية