الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( وكان في معزل ) فاعلم أن المعزل في اللغة معناه : موضع منقطع عن غيره ، وأصله من العزل ، وهو التنحية والإبعاد . تقول : كنت بمعزل عن كذا ، أي بموضع قد عزل منه .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( وكان في معزل ) لا يدل على أنه في معزل من أي شيء ، فلهذا السبب ذكروا وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه كان في معزل من السفينة ؛ لأنه كان يظن أن الجبل يمنعه من الغرق .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه كان في معزل عن أبيه وإخوته وقومه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه كان في معزل من الكفار كأنه انفرد عنهم فظن نوح عليه السلام أن ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ) فنقول : قرأ حفص عن عاصم : " يا بني " بفتح الياء في جميع القرآن ، والباقون بالكسر . قال أبو علي : الوجه الكسر ، وذلك أن اللام من ابن ياء أو واو ، فإذا صغرت ألحقت ياء التحقير ، فلزم أن ترد اللام المحذوفة وإلا لزم أن تحرك ياء التحقير بحركات الإعراب ، لكنها لا تحرك ؛ لأنها لو حركت لزم أن تنقلب كما تنقلب سائر حروف المد واللين إذا كانت حروف إعراب ، نحو عصا وقفا ، ولو انقلبت بطلت دلالتها على التحقير ، ثم أضفت إلى نفسك اجتمعت ثلاث ياءات :

                                                                                                                                                                                                                                            الأولى منها للتحقير .

                                                                                                                                                                                                                                            والثانية : لام الفعل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالثة : التي للإضافة .

                                                                                                                                                                                                                                            تقول : هذا بني ، فإذا ناديته صار فيه وجهان : إثبات الياء [ ص: 186 ] وحذفها ، والاختيار حذف الياء التي للإضافة وإبقاء الكسرة دلالة عليه نحو يا غلام . ومن قرأ : " يا بني " بفتح الياء فإنه أراد الإضافة أيضا كما أرادها من قرأ بالكسر ، لكنه أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف تخفيفا ، فصار يا بنيا كما قال :


                                                                                                                                                                                                                                            يا ابنة عما لا تلومي واهجعي



                                                                                                                                                                                                                                            ثم حذف الألف للتخفيف .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعاه إلى أن يركب السفينة حكى عن ابنه أنه قال : ( سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) وهذا يدل على أن الابن كان متماديا في الكفر مصرا عليه مكذبا لأبيه فيما أخبر عنه ، فعند هذا قال نوح عليه السلام : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) وفيه سؤال ، وهو أن الذي رحمه الله معصوم ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم ، وهو قوله : ( لا عاصم اليوم من أمر الله ) ، وذكروا في الجواب طرقا كثيرة :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أنه تعالى قال قبل هذه الآية : ( وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ) فبين أنه تعالى رحيم وأنه برحمته يخلص هؤلاء الذين ركبوا السفينة من آفة الغرق .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : إن ابن نوح عليه السلام لما قال : " سآوي إلى جبل يعصمني من الماء " قال نوح عليه السلام : أخطأت ، ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) والمعنى : إلا ذلك الذي ذكرت أنه برحمته يخلص هؤلاء من الغرق ، فصار تقدير الآية : لا عاصم اليوم من عذاب الله إلا الله الرحيم ، وتقديره : لا فرار من الله إلا إلى الله ، وهو نظير قوله عليه السلام في دعائه : " وأعوذ بك منك " وهذا تأويل في غاية الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في التأويل وهو الذي ذكره صاحب " حل العقد " أن هذا الاستثناء وقع من مضمر هو في حكم الملفوظ لظهور دلالة اللفظ عليه ، والتقدير : لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا من رحم ، وهو كقولك : لا نضرب اليوم إلا زيدا ؛ فإن تقديره لا تضرب أحدا إلا زيدا ، إلا أنه ترك التصريح به لدلالة اللفظ عليه ، فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : في التأويل أن قوله : ( لا عاصم ) أي لا ذا عصمة كما قالوا : رامح ولابن ، ومعناه ذو رمح ، وذو لبن ، وقال تعالى : ( من ماء دافق ) [الطارق : 6] و ( عيشة راضية ) [الحاقة : 21] ، ومعناه ما ذكرنا ، فكذا ههنا ، وعلى هذا التقدير : العاصم هو ذو العصمة ، فيدخل فيه المعصوم ، وحينئذ يصح استثناء قوله : ( إلا من رحم ) منه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : قوله : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) عنى بقوله إلا من رحم نفسه ؛ لأن نوحا وطائفته هم الذين خصهم الله تعالى برحمته ، والمراد : لا عاصم لك إلا الله ، بمعنى أن بسببه تحصل رحمة الله ، كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام في قوله : ( وأحيي الموتى ) [آل عمران : 49] لأجل أن الإحياء حصل بدعائه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : أن قوله : ( إلا من رحم ) استثناء منقطع ، والمعنى لكن من رحم الله معصوم ، ونظيره قوله تعالى : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) [النساء : 157] ثم إنه تعالى بين بقوله : ( وحال بينهما الموج ) أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح ( فكان من المغرقين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية