الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ) وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنا ، لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم ، بل سمعوه من أسلافهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : وما يتبع أكثرهم في قولهم : الأصنام آلهة ، وأنها شفعاء عند الله -إلا الظن .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الأول أقوى ; لأنا في القول الثاني نحتاج إلى أن نفسر الأكثر بالكل .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : تمسك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : العمل بالقياس عمل بالظن ، فوجب أن لا يجوز ; لقوله تعالى : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب مثبتو القياس ، فقالوا : الدليل الذي دل على وجوب العمل بالقياس دليل قاطع ، فكان وجوب العمل بالقياس معلوما ، فلم يكن العمل بالقياس مظنونا بل كان معلوما .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب المستدل عن هذا السؤال ، فقال : لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكما لله تعالى لكان ترك العمل به كفرا لقوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ المائدة : 44 ] ولما لم يكن كذلك ، بطل العمل به . وقد يعدون عن هذه الحجة بأنهم قالوا : الحكم المستفاد من القياس إما أن يعلم كونه حكما لله تعالى أو يظن أو لا يعلم ولا يظن ، والأول باطل ، وإلا لكان من لم يحكم به كافرا لقوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ المائدة : 44 ] وبالاتفاق ليس كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني باطل ; لأن العمل بالظن لا يجوز ; لقوله تعالى : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : باطل ، لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوما ولا مظنونا ، كان مجرد التشهي ، فكان باطلا لقوله تعالى : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ) . [ مريم : 59 ]

                                                                                                                                                                                                                                            وأجاب مثبتو القياس : بأن حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسك بالعمومات ، والتمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن .

                                                                                                                                                                                                                                            فلما كانت هذه العمومات دالة على المنع من التمسك بالظن ، لزم كونها دالة على المنع من التمسك بها ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أن كل من كان ظانا في مسائل الأصول ، وما كان قاطعا ، فإنه لا يكون مؤمنا .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فقول أهل السنة : أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع ، فوجب أن يلزمهم الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : هذا ضعيف من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : مذهب الشافعي رحمه الله : أن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ، والشك أصل في أن هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى ؟ والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الغرض من قوله إن شاء الله بقاء الإيمان عند الخاتمة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : الغرض منه هضم النفس وكسرها . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية