واعلم أن قوله : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة ) تقديره : وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ، فلفظ " مثقال " عند دخول كلمة " من " عليه مجرور ، بحسب الظاهر ، ولكنه مرفوع في المعنى ، فالمعطوف عليه إن عطف على الظاهر كان مجرورا ، إلا أن لفظ أصغر وأكبر غير منصرف ، فكان مفتوحا ، وإن عطف على المحل ، وجب كونه مرفوعا ، ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل ، وكذا قوله : ( ما لكم من إله غيره ) وغيره .
وقال الشاعر :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
هذا ما ذكره النحويون . قال صاحب " الكشاف " : لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب . وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله تعالى ، وإنه باطل .
وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين :
الوجه الأول : أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد .
وإذا ثبت هذا فنقول : الأشياء المخلوقة على قسمين : قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسماوات والأرض ، وقسم آخر أوجده الله بواسطة القسم الأول ، مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود ، فقوله : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين ، وهو كتاب كتبه الله تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه ، ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالما بها محيطا بأحوالها ، والغرض منه ، وهو المراد من قوله : ( الرد على من يقول : إنه تعالى غير عالم بالجزئيات إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) [ الجاثية : 29 ] .
والوجه الثاني في الجواب : أن نجعل كلمة " إلا " في قوله : ( إلا في كتاب مبين ) استثناء منقطعا ، لكن بمعنى هو في كتاب مبين .
وذكر أبو علي الجرجاني صاحب " النظم " عنه جوابا آخر فقال : قوله : ( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) ههنا تم الكلام وانقطع . ثم وقع الابتداء بكلام آخر ، وهو قوله : ( إلا في كتاب مبين ) أي وهو أيضا في كتاب مبين .
قال : والعرب تضع " إلا " موضع " واو النسق " كثيرا على معنى الابتداء ، كقوله تعالى : ( لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ) [ النمل : 10 - 11] يعني ، ومن ظلم .
وقوله : ( لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا ) [ البقرة : 150 ] يعني والذين ظلموا . وهذا الوجه في غاية التعسف .
وأجاب صاحب " الكشاف " بوجه رابع فقال : الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله : ( ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) على قوله : ( من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ) إما بحسب الظاهر أو بحسب المحل ، لكنا [ ص: 101 ] لا نقول ذلك ، بل نقول : الوجه في القراءة بالنصب في قوله : ( ولا أصغر من ذلك ) الحمل على نفي الجنس ، وفي القراءة بالرفع الحمل على الابتداء ، وخبره قوله : ( في كتاب مبين ) وهذا الوجه اختيار الزجاج .