أما قوله : ( ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه سبحانه لما أمر بعبادة الرب أردفه بما يدل على وجود الصانع وهو خلق المكلفين وخلق من قبلهم ، وهذا يدل على أنه ، وطعن قوم من لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال الحشوية في هذه الطريقة ، وقالوا : الاشتغال بهذا العلم بدعة ، ولنا في إثبات مذهبنا وجوه نقلية وعقلية ، وههنا ثلاث مقامات :
المقام الأول : في بيان فضل هذا العلم وهو من وجوه :
أحدها : أن شرف العلم بشرف المعلوم فمهما كان المعلوم أشرف كان العلم الحاصل به أشرف ، فلما كان أشرف المعلومات ذات الله تعالى وصفاته وجب أن يكون العلم المتعلق به أشرف العلوم .
[ ص: 80 ]
وثانيها : أن العلم إما أن يكون دينيا أو غير ديني ، ولا شك أن العلم الديني أشرف من غير الديني ، وأما العلم الديني فإما أن يكون هو علم الأصول ، أو ما عداه ، أما ما عداه فإنه تتوقف صحته على علم الأصول ؛ لأن المفسر إنما يبحث عن معاني كلام الله تعالى ، وذلك فرع على وجود الصانع المختار المتكلم ، وأما المحدث فإنما يبحث عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك فرع على ثبوت نبوته صلى الله عليه وسلم ، والفقيه إنما يبحث عن أحكام الله ، وذلك فرع على التوحيد والنبوة ، فثبت أن هذه العلوم مفتقرة إلى علم الأصول ، والظاهر أن علم الأصول غني عنها فوجب أن يكون علم الأصول أشرف العلوم .
وثالثها : أن شرف الشيء قد يظهر بواسطة خساسة ضده ، فكلما كان ضده أخس كان هو أشرف ، وضد علم الأصول هو الكفر والبدعة ، وهما من أخس الأشياء ، فوجب أن يكون علم الأصول أشرف الأشياء .
ورابعها : أن شرف الشيء قد يكون بشرف موضوعه وقد يكون لأجل شدة الحاجة إليه ، وقد يكون لقوة براهينه ، وعلم الأصول مشتمل على الكل ، وذلك لأن علم الهيئة أشرف من علم الطب نظرا إلى أن موضوع علم الهيئة أشرف من موضوع علم الطب ، وإن كان الطب أشرف منه نظرا إلى أن الحاجة إلى الطب أكثر من الحاجة إلى الهيئة ، وعلم الحساب أشرف منهما نظرا إلى أن براهين علم الحساب أقوى ، أما ، ومعرفة أقسام المعلومات من المعدومات والموجودات ، ولا شك أن ذلك أشرف الأمور ، وأما الحاجة إليه فشديدة ؛ لأن الحاجة إما في الدين أو في الدنيا ، أما في الدين فشديدة ؛ لأن من عرف هذه الأشياء استوجب الثواب العظيم والتحق بالملائكة ، ومن جهلها استوجب العقاب العظيم والتحق بالشياطين ، وأما في الدنيا فلأن مصالح العالم إنما تنتظم عند الإيمان بالصانع والبعث والحشر ، إذ لو لم يحصل هذا الإيمان لوقع الهرج والمرج في العالم ، وأما قوة البراهين فبراهين هذا العلم يجب أن تكون مركبة من مقدمات يقينية تركيبا يقينيا وهذا هو النهاية في القوة ، فثبت أن هذا العلم مشتمل على جميع جهات الشرف والفضل فوجب أن يكون أشرف العلوم . علم الأصول فالمطلوب منه معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله
وخامسها : أن هذا العلم لا يتطرق إليه النسخ ولا التغيير ، ولا يختلف باختلاف الأمم والنواحي بخلاف سائر العلوم ، فوجب أن يكون أشرف العلوم .
وسادسها : أن الآيات المشتملة على مطالب هذا العلم وبراهينها أشرف من الآيات المشتملة على المطالب الفقهية بدليل أنه جاء في فضيلة ( قل هو الله أحد ) [الإخلاص : 1] و ( آمن الرسول ) [البقرة : 285] وآية الكرسي ما لم يجئ مثله في فضيلة قوله : ( ويسألونك عن المحيض ) [البقرة : 222] وقوله : ( ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ) [البقرة : 282] وذلك يدل على أن هذا العلم أفضل .
وسابعها : أن الآيات الواردة في الأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية ، وأما البواقي ففي بيان التوحيد والنبوة والرد على عبدة الأوثان وأصناف المشركين ، وأما الآيات الواردة في القصص فالمقصود منها معرفة حكمة الله تعالى وقدرته على ما قال : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) [يوسف : 111] فدل ذلك على أن هذا العلم أفضل ، ونشير إلى معاقد الدلائل : أما فالقرآن مملوء منه : الذي يدل على وجود الصانع
أولها : ما ذكر ههنا من الدلائل الخمسة وهي خلق المكلفين وخلق من قبلهم ، وخلق السماء وخلق [ ص: 81 ] الأرض ، وخلق الثمرات من الماء النازل من السماء إلى الأرض ، وكل ما ورد في القرآن من عجائب السماوات والأرض ، فالمقصود منه ذلك ، وأما الذي يدل على الصفات .
أما العلم فقوله : ( إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ) ثم أردفه بقوله : ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) [آل عمران : 5 ، 6] وهذا هو عين دليل المتكلمين فإنهم يستدلون بأحكام الأفعال وإتقانها على علم الصانع ، وههنا استدل الصانع سبحانه بتصوير الصور في الأرحام على كونه عالما بالأشياء ، وقال : ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [الملك : 14] وهو عين تلك الدلالة وقال : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) [الأنعام : 59] وذلك تنبيه على كونه تعالى عالما بكل المعلومات ؛ لأنه تعالى مخبر عن المغيبات فتقع تلك الأشياء على وفق ذلك الخبر ، فلولا كونه عالما بالمغيبات وإلا لما وقع كذلك ، وأما فكل ما ذكر سبحانه من حدوث الثمار المختلفة والحيوانات المختلفة مع استواء الكل في الطبائع الأربع فذاك يدل على كونه سبحانه قادرا مختارا لا موجبا بالذات ، وأما صفة القدرة فالذي يدل على أنه ليس بجسم ولا في مكان قوله : ( التنزيه قل هو الله أحد ) فإن المركب مفتقر إلى أجزائه والمحتاج محدث ، وإذا كان أحدا وجب أن لا يكون جسما وإذا لم يكن جسما لم يكن في المكان ، وأما التوحيد فالذي يدل عليه قوله : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) و [الأنبياء : 22] قوله : ( إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ) [الإسراء : 42] وقوله : ( ولعلا بعضهم على بعض ) [المؤمنون : 91] وأما النبوة فالذي يدل عليها قوله ههنا : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) [البقرة : 23] وأما المعاد فقوله : ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) [يس : 79] وأنت لو فتشت علم الكلام لم تجد فيه إلا تقرير هذه الدلائل والذب عنها ودفع المطاعن والشبهات القادحة فيها ، أفترى أن علم الكلام يذم لاشتماله على هذه الأدلة التي ذكرها الله أو لاشتماله على دفع المطاعن والقوادح عن هذه الأدلة؟ ما أرى أن عاقلا مسلما يقول ذلك ويرضى به .
وثانيها : أن الله تعالى حكى الاستدلال بهذه الدلائل عن الملائكة وأكثر الأنبياء ، أما الملائكة فلأنهم لما قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ) [البقرة : 30] كان المراد أن خلق مثل هذا الشيء قبيح ، والحكيم لا يفعل القبيح ، فأجابهم الله تعالى بقوله : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) والمراد إني لما كنت عالما بكل المعلومات كنت قد علمت في خلقهم وتكوينهم حكمة لا تعلمونها أنتم ، ولا شك أن هذا هو المناظرة ، وأما فهي أيضا ظاهرة ، وأما الأنبياء عليهم السلام فأولهم مناظرة الله تعالى مع إبليس آدم عليه السلام ، وقد أظهر الله تعالى حجته على فضله بأن أظهر علمه على الملائكة وذلك محض الاستدلال ، وأما نوح عليه السلام فقد حكى الله تعالى عن الكفار قولهم : ( قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ) [هود : 32] ومعلوم أن تلك المجادلة ما كانت في تفاصيل الأحكام الشرعية بل كانت في التوحيد والنبوة ، في هذا العلم هي حرفة الأنبياء ، وأما فالمجادلة في نصرة الحق إبراهيم عليه السلام فالاستقصاء في شرح أحواله في هذا الباب يطول وله مقامات :
أحدها : مع نفسه وهو قوله : ( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) [الأنعام : 76] وهذا هو بتغيرها على حدوثها ، ثم إن الله تعالى مدحه على ذلك ، فقال : ( طريقة المتكلمين في الاستدلال وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) [الأنعام : 82] [ ص: 82 ]
وثانيها : حاله مع أبيه وهو قوله : ( ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) [مريم : 42] .
وثالثها : حاله مع قومه تارة بالقول وأخرى بالفعل ، أما بالقول فقوله : ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) [الأنبياء : 52] وأما بالفعل فقوله : ( فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ) [الأنبياء : 58] .
ورابعها : حاله مع ملك زمانه في قوله : ( ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت ) [البقرة : 258] إلى آخره ، وكل من سلمت فطرته علم أن علم الكلام ليس إلا تقرير هذه الدلائل ودفع الأسئلة والمعارضات عنها ، فهذا كله بحث إبراهيم عليه السلام في المبدأ ، وأما بحثه في المعاد فقال : ( رب أرني كيف تحي الموتى ) [البقرة : 260] إلى آخره ، وأما موسى عليه السلام فانظر إلى مناظرته مع فرعون في التوحيد والنبوة ، أما التوحيد فاعلم أن موسى عليه السلام إنما يعول في أكثر الأمر على دلائل إبراهيم عليه السلام ؛ وذلك لأن الله تعالى حكى في سورة طه : ( قال فمن ربكما ياموسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) [طه : 49 ، 50] وهذا هو الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله : ( الذي خلقني فهو يهدين ) [الشعراء : 78] وقال في سورة الشعراء ( ربكم ورب آبائكم الأولين ) [الشعراء : 26] وهذا هو الذي قاله إبراهيم : ( ربي الذي يحيي ويميت ) [البقرة : 258] فلما لم يكتف فرعون بذلك وطالبه بشيء آخر قال موسى : ( رب المشرق والمغرب ) [الشعراء : 28] فهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل حرفة هؤلاء المعصومين ، وأنهم كما استفادوها من عقولهم فقد توارثوها من أسلافهم الطاهرين ، وأما استدلال موسى على النبوة بالمعجزة ففي قوله : ( أولو جئتك بشيء مبين ) وهذا هو الاستدلال بالمعجزة على الصدق ، وأما محمد عليه الصلاة والسلام فاشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل ، فإن القرآن مملوء منه ، ولقد كان عليه السلام مبتلى بجميع فرق الكفار .
فالأول : الدهرية الذين كانوا يقولون : ( وما يهلكنا إلا الدهر ) [الجاثية : 24] والله تعالى أبطل قولهم بأنواع الدلائل .
والثاني : الذين ينكرون القادر المختار ، والله تعالى أبطل قولهم بحدوث أنواع النبات وأصناف الحيوانات مع اشتراك الكل في الطبائع وتأثيرات الأفلاك ، وذلك يدل على وجود القادر .
والثالث : الذين أثبتوا شريكا مع الله تعالى ، وذلك الشريك إما أن يكون علويا أو سفليا ، أما الشريك العلوي فمثل من جعل الكواكب مؤثرة في هذا العالم ، والله تعالى أبطله بدليل الخليل في قوله : ( فلما جن عليه الليل ) [الأنعام : 76] وأما الشريك السفلي فالنصارى قالوا بإلاهية المسيح ، وعبدة الأوثان قالوا بإلاهية الأوثان ، والله تعالى أكثر من الدلائل على فساد قولهم .
الرابع : : الذين طعنوا في النبوة وهم فريقان
أحدهما : الذين طعنوا في أصل النبوة وهم الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا : ( أبعث الله بشرا رسولا ) [الإسراء : 94] .
والثاني : الذين سلموا أصل النبوة وطعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم اليهود والنصارى ، والقرآن مملوء من الرد عليهم ، ثم إن طعنهم من وجوه تارة بالطعن في القرآن فأجاب الله بقوله : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة ) [البقرة : 26] وتارة بالتماس سائر [ ص: 83 ] المعجزات كقوله : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) [ الإسراء : 90 ] ، وتارة بأن هذا القرآن نزل نجما نجما ، وذلك يوجب تطرق التهمة إليه ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : ( كذلك لنثبت به فؤادك ) [ الفرقان : 32 ] .
الخامس : الذين نازعوا في الحشر والنشر ، والله تعالى أورد على صحة ذلك وعلى إبطال قول المنكرين أنواعا كثيرة من الدلائل .
السادس : الذين طعنوا في التكليف تارة بأنه لا فائدة فيه ، فأجاب الله عنه بقوله : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) [ الإسراء : 7 ] ، وتارة بأن الحق هو الجبر ، وأنه ينافي صحة التكليف ، وأجاب الله تعالى عنه بأنه ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) [ الأنبياء : 23 ] ، وإنما اكتفينا في هذا المقام بهذه الإشارات المختصرة ؛ لأن الاستقصاء فيها مذكور في جملة هذا الكتاب ، وإذا ثبت أن هذه الحرفة هي حرفة كل الأنبياء والرسل علمنا أن الطاعن فيها إما أن يكون كافرا أو جاهلا .