( وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين )
قوله تعالى : ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين )
واعلم أن في قوله : ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ) مسائل :
المسألة الأولى : قوله : ( وهي تجري بهم في موج ) متعلق بمحذوف ، والتقدير : وقال اركبوا فيها ، فركبوا فيها يقولون : بسم الله وهي تجري بهم في موج كالجبال .
المسألة الثانية : الأمواج العظيمة إنما تحدث عند حصول الرياح القوية الشديدة العاصفة ، فهذا يدل على أنه حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة شديدة ، والمقصود منه بيان شدة الهول والفزع .
المسألة الثالثة : الجريان في الموج هو أن تجري السفينة داخل الموج ، وذلك يوجب الغرق ، فالمراد أن الأمواج لما أحاطت بالسفينة من الجوانب ، شبهت تلك السفينة بما إذا جرت في داخل تلك الأمواج .
ثم حكى الله تعالى عنه أنه نادى ابنه ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أنه كان ابنا له ، وفيه أقوال :
القول الأول : أنه ابنه في الحقيقة ، والدليل عليه : أنه تعالى نص عليه فقال : ( ونادى نوح ابنه ) ونوح أيضا نص عليه فقال : ( يابني ) وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه فأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز ، والذين خالفوا هذا الظاهر إنما خالفوه ؛ لأنهم استبعدوا أن يكون ولد الرسول المعصوم كافرا ، وهذا بعيد ؛ فإنه ثبت أن والد رسولنا صلى الله عليه وسلم كان كافرا ، ووالد إبراهيم عليه السلام كان كافرا بنص القرآن ، فكذلك ههنا ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام لما قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [نوح : 26] فكيف ناداه مع كفره ؟
[ ص: 185 ] فأجابوا عنه من وجوه :
الأول : أنه كان ينافق أباه فظن نوح أنه مؤمن ، فلذلك ناداه ، ولولا ذلك لما أحب نجاته .
والثاني : أنه عليه السلام كان يعلم أنه كافر ، لكنه ظن أنه لما شاهد الغرق والأهوال العظيمة فإنه يقبل الإيمان ، فصار قوله : ( يابني اركب معنا ) كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان ، وتأكد هذا بقوله : ( ولا تكن مع الكافرين ) أي تابعهم في الكفر واركب معنا .
والثالث : أن لعلها حملته على ذلك النداء ، والذي تقدم من قوله : ( شفقة الأبوة إلا من سبق عليه القول ) كان كالمجمل ، فلعله عليه السلام جوز أن لا يكون هو داخلا فيه .
القول الثاني : أنه كان ابن امرأته ، وهو قول وقول محمد بن علي الباقر ، ويروى أن الحسن البصري عليا رضي الله عنه قرأ : " ونادى نوح ابنها " ، والضمير لامرأته . وقرأ محمد بن علي : " ابنه " بفتح الهاء يريد أن ابنها ، إلا أنهما اكتفيا بالفتحة عن الألف ، وقال وعروة بن الزبير قتادة : سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه ، فقلت : إن الله حكى عنه أنه قال : ( إن ابني من أهلي ) [هود : 45] وأنت تقول : ما كان ابنا له ، فقال : لم يقل : إنه مني ولكنه قال : من أهلي ، وهذا يدل على قولي .
القول الثالث : أنه ولد على فراشه لغير رشدة ، والقائلون بهذا القول احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط : ( فخانتاهما ) ، وهذا قول خبيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة ، لا سيما وهو على خلاف نص القرآن . أما قوله تعالى ( فخانتاهما ) [التحريم : 10] فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه . قيل رضي الله عنهما : ما كانت تلك الخيانة ؟ فقال : كانت لابن عباس امرأة نوح تقول : زوجي مجنون ، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به . ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب قوله تعالى : ( الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ) [النور : 26] ، وأيضا قوله تعالى : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) [النور : 3] وبالجملة فقد دللنا على أن الحق هو مقول الأول .