المسألة الثالثة : اعلم أن ويدل عليه وجوه : ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول
أحدها : إطباق العرب والعجم على ذلك ، أما العرب فذلك مشهور عندهم وقد تمثلوا بأحقر الأشياء ، فقالوا في التمثيل بالذرة : أجمع من ذرة ، وأضبط من ذرة ، وأخفى من الذرة ، وفي التمثيل بالذباب : أجرأ من الذباب ، وأخطأ من الذباب ، وأطيش من الذباب ، وأشبه من الذباب بالذباب ، وألح من الذباب . وفي التمثيل بالقراد : أسمع من قراد ، وأصغر من قراد . وأعلق من قراد . وأغم من قراد ، وأدب من قراد ، وقالوا في الجراد : أطير من جرادة ، وأحطم من جرادة ، وأفسد من جرادة . وأصفى من لعاب الجراد . وفي الفراشة : أضعف من فراشة ، وأطيش من فراشة ، وأجهل من فراشة ، وفي البعوضة : أضعف من بعوضة ، وأعز من مخ البعوضة ، وكلفني مخ البعوضة ، في مثل تكليف ما لا يطاق . وأما العجم فيدل عليه " كتاب كليلة ودمنة " وأمثاله ، وفي بعضها : قالت البعوضة ، وقد وقعت على نخلة عالية وأرادت أن تطير عنها : يا هذه استمسكي فإني أريد أن أطير ، فقالت النخلة : والله ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك .
وثانيها : أنه ضرب الأمثال في إنجيل عيسى - عليه السلام - بالأشياء المستحقرة ، قال : مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية ، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة ، فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان ، فقال عبيد الزارع : يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك ؟ قال : بلى ، قالوا : فمن أين هذا الزوان ؟ قال : لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان فتقلعوا معه الحنطة ، فدعوهما يتربيان جميعا حتى الحصاد . فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزما ثم يحرقوه بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن .
وأفسر لكم : ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة هو أبو البشر ، والقرية هي العالم ، والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله تعالى ، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس ، والزوان هو المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه ، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنو آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله ، وأهل الشر إلى الهاوية وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار كذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان ، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت [ ص: 124 ] ربهم ، من كانت له أذن تسمع فليسمع .
وأضرب لكم مثلا آخر يشبه ملكوت السماء : لو أن رجلا أخذ حبة من خردل وهي أصغر الحبوب وزرعها في قريته ، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول ، وجاء طير من السماء فعشش في فروعها ، فكذلك الهدى ؛ من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره ، ونجى من اقتدى به .
وقال : لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة ، وكذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم . وقال : قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح ، وقال لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها ، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله .
وقال : نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يزرعن ولا يحصدن ، ومنهن من هو في جوف الحجر الأصم أو في جوف العود ، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله ؟ أفلا تعقلون ؟ وقال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ولا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم .
فظهر أن الله تعالى ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة ، وأما العقل فلأن من طبع الخيال المحاكاة والتشبه ، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال ، وإذا ذكر معه الشبه أدركه العقل مع معاونة الخيال ، ولا شك أن الثاني يكون أكمل ، وأيضا فنحن نرى أن الإنسان يذكر معنى ولا يلوح له كما ينبغي ، فإذا ذكر المثال اتضح وصار مبينا مكشوفا ، وإن كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي لا يراد منه إلا الإيضاح والبيان .
أما قولهم : ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى ، قلنا : هذا جهل ؛ لأنه تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير وحكمه في كل ما خلق وبرأ عام ؛ لأنه قد أحكم جميعه ، وليس الصغير أخف عليه من الكبير والعظيم أصعب من الصغير ، وإذا كان الكل بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلا لعباده من الصغير ، بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة ، فإذا كان الأليق بها الذباب والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل ، فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل بالذباب ليبين أن قدر مصرتها لا يندفع بهذه الأصنام ، ويضرب المثل ببيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك ، وفي مثل ذلك كلما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح .
المسألة الرابعة : قال الأصم : " ما " في قوله : (مثلا ما) صلة زائدة ، كقوله : ( فبما رحمة من الله ) [ آل عمران : 159 ] ، وقال أبو مسلم : معاذ الله أن يكون في القرآن زيادة ولغو ، والأصح قول أبي مسلم ؛ لأن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وبيانا ، وكونه لغوا ينافي ذلك . وفي (بعوضة) قراءتان ، إحداهما : النصب ، وفي لفظة (ما) على هذه القراءة وجهان ، الأول : أنها مبنية وهي التي إذا قرنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شيوعا وبعدا عن الخصوصية .
بيانه أن الرجل إذا قال لصاحبه : أعطني كتابا أنظر فيه ، فأعطاه بعض الكتب ، صح له أن يقول : أردت كتابا آخر ولم أرد هذا ، ولو قاله مع (ما) لم يصح له ذلك ؛ لأن تقدير الكلام : أعطني كتابا ، أي كتاب كان .
الثاني : أنها نكرة قام تفسيرها باسم الجنس مقام الصفة ، أما على قراءة الرفع ففيها وجهان : الأول : أنها موصولة صلتها الجملة ؛ لأن التقدير هو بعوضة ، فحذف المبتدأ كما حذف في ( تماما على الذي أحسن ) [ الأنعام : 154 ] . الثاني : أن تكون استفهامية ؛ فإنه لما قال : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ) كأنه قال بعده : ما بعوضة فما فوقها ، حتى يضرب المثل به ، بل له أن يمثل بما هو أقل من ذلك كثيرا ، كما يقال : فلان لا يبالي بما وهب ، ما دينار وديناران ، أي يهب ما هو أكثر من ذلك بكثير .