المسألة السادسة : إن قيل : إني أعلم ما لا تعلمون ) كيف يصلح أن يكون جوابا عن السؤال الذي ذكروه ؟ قلنا : قد ذكرنا أن السؤال يحتمل وجوها : قوله : (
أحدها : أنه للتعجب فيكون قوله : ( أعلم ما لا تعلمون ) جوابا له من حيث إنه قال تعالى : لا تتعجبوا من أن يكون فيهم من يفسد ويقتل ، فإني أعلم مع هذا بأن فيهم جمعا من الصالحين والمتقين ، وأنتم لا تعلمون .
وثانيها : أنه للغم فيكون الجواب لا تغتموا بسبب وجود المفسدين فإني أعلم أيضا أن فيهم جمعا من المتقين ، ومن لو أقسم علي لأبره .
وثالثها : أنه طلب الحكمة فجوابه أن مصلحتكم فيه أن تعرفوا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل ، بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدة لكم .
ورابعها : أنه التماس ؛ لأن يتركهم في الأرض وجوابه : إني أعلم أن مصلحتكم أن تكونوا في السماء لا في الأرض ، وفيه وجه خامس : وهو أنهم لما قالوا : ( نسبح بحمدك ونقدس لك ) قال تعالى : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) وهو أن معكم إبليس ، وأن في قلبه حسدا وكبرا ونفاقا .
ووجه سادس : وهو أني أعلم ما لا تعلمون ، فإنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فقد استعظمتم أنفسكم فكأنكم أنتم بهذا الكلام في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي ، ولكن اصبروا حتى يظهر البشر فيتضرعون إلى الله بقولهم : ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) [الأعراف : 23] وبقوله : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي ) [الشعراء : 82] وبقوله : ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) [النمل : 19] .
[ ص: 161 ] ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين )
قوله تعالى : ( فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ) أعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته وإسكانه تعالى إياهم في الأرض ، وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الإجمال بقوله تعالى : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) أراد تعالى أن يزيدهم بيانا ، وأن يفصل لهم ذلك المجمل ، فبين تعالى لهم من فضل آدم عليه السلام ما لم يكن من ذلك معلوما لهم ، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم ، فيتأكد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال الأشعري والجبائي والكعبي : ، بمعنى أن الله تعالى خلق علما ضروريا بتلك الألفاظ ، وتلك المعاني ، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : ( اللغات كلها توقيفية وعلم آدم الأسماء كلها ) والكلام على التمسك بهذه الآية سؤالا وجوابا ذكرناه في أصول الفقه .
وقال أبو هاشم : إنه لا بد من تقدم لغة اصطلاحية ، واحتج على أنه لا بد وأن يكون الوضع مسبوقا بالاصطلاح بأمور :
أحدها : أنه لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع هذه اللفظة لهذا المعنى لكان ذلك العلم إما أن يحصل للعاقل أو لغير العاقل ، لا جائز أن يحصل للعاقل ؛ لأنه لو حصل العلم الضروري بأنه تعالى وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى لصارت صفة الله تعالى معلومة بالضرورة مع أن ذاته معلومة بالاستدلال ، وذلك محال ، ولا جائز أن يحصل لغير العاقل ؛ لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللغات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل ، فثبت أن القول بالتوقيف فاسد .
وثانيها : أنه تعالى خاطب الملائكة وذلك يوجب تقدم لغة على ذلك التكلم .
وثالثها : أن قوله ( وعلم آدم الأسماء كلها ) يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء ، وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التعليم ، وإذا كان كذلك كانت اللغات حاصلة قبل ذلك التعليم .
ورابعها : أن آدم عليه السلام لما تحدى الملائكة بعلم الأسماء فلا بد وأن تعلم الملائكة كونه صادقا في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات ، وإلا لم يحصل العلم بصدقه ، وذلك يقتضي أن يكون وضع تلك الأسماء لتلك المسميات متقدما على ذلك التعليم .
والجواب عن الأول : لم لا يجوز أن يقال بخلق العلم الضروري بأن واضعا وضع هذه الأسماء لهذه المسميات من غير تعيين أن ذلك الواضع هو الله تعالى أو الناس ؟ وعلى هذا لا يلزم أن تصير الصفة معلومة بالضرورة حال كون الذات معلومة بالدليل ، سلمنا أنه تعالى ما خلق هذا العلم في العاقل ، فلم لا يجوز أن [ ص: 162 ] يقال : إنه تعالى خلقه في غير العاقل ، والتعويل على الاستعباد في هذا المقام مستبعد ، وعن الثاني : لم لا يجوز أن يقال : خاطب الملائكة بطريق آخر بالكتابة وغيرها ، وعن الثالث : لا شك أن إرادة الله تعالى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني سابقة على التعليم ، فكفى ذلك في إضافة التعليم إلى الأسماء ، وعن الرابع : ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، والله تعالى أعلم .