( أ ) ، انظر إلى زلة المعصية عند الجهل لا يرجى زوالها ، وعند الشهوة يرجى زوالها آدم فإنه بعلمه استغفر والشيطان غوى ، وبقي في غيه أبدا ؛ لأن ذلك كان بسبب الجهل .
( ب ) إن يوسف عليه السلام لما صار ملكا احتاج إلى وزير فسأل ربه عن ذلك فقال له جبريل : إن ربك يقول : لا تختر إلا فلانا ، فرآه يوسف في أسوأ الأحوال فقال لجبريل : إنه كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله ؟ فقال جبريل : إن ربك عينه لذلك ؛ لأنه كان ذب عنك حيث قال : ( وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ) [يوسف : 27] والنكتة أن الذي ذب عن يوسف عليه السلام استحق الشركة في مملكته ، فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم كيف لا يستحق من الله الإحسان والتحسين ؟!
( ج ) [ ص: 178 ] حتى تصلح لخدمتي ، فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم بعث الملك إليه وقال : اترك التعلم ، فقد صرت أهلا لخدمتي ، فقال : كنت أهلا لخدمتك حين لم ترني أهلا لخدمتك ، وحين رأيتني أهلا لخدمتك رأيت نفسي أهلا لخدمة الله تعالى ، وذلك أني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي ، والآن علمت أن الباب باب الرب . أراد واحد خدمة ملك فقال الملك : اذهب وتعلم
( د ) إنما يصعب عليك لفرط حبك للدنيا ؛ لأنه تعالى أعطاك سواد العين وسويداء القلب ، ولا شك أن السواد أكبر من السويداء في اللفظ ؛ لأن السويداء تصغير السواد ، ثم إذا وضعت على سواد عينك جزءا من الدنيا لا ترى شيئا ، فكيف إذا وضعت على السويداء كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئا ؟ تحصيل العلم
( ه ) قال حكيم : ، والعلم ميت وحياته بالطلب ، والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة ، فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب وإظهاره بالمناظرة ، وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم ونتاجه بالعمل ، فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكا أبديا لا آخر له . القلب ميت وحياته بالعلم
( و ) ( قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم ] [النمل : 18] إلى قوله : ( وهم لا يشعرون ) [النمل : 18] كانت وهي قوله تعالى : ( رياسة تلك النملة على غيرها لم تكن إلا بسبب أنها علمت مسألة واحدة وهم لا يشعرون ) كأنها قالت : إن سليمان معصوم والمعصوم لا يجوز منه إيذاء البريء عن الجرم ، ولكنه لو حطمكم فإنما يصدر ذلك منه على سبيل السهو ؛ لأنه لا يعلم حالكم فقوله تعالى : ( وهم لا يشعرون ) إشارة إلى ، فتلك النملة لما علمت هذه المسألة الواحدة استحقت الرياسة التامة ، فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات كيف لا يستوجب الرياسة في الدنيا والدين . تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن المعصية
( ز ) ، والنكتة أن العلم هناك انضم إلى الكلب فصار النجس ببركة العلم طاهرا ، فههنا النفس والروح طاهرتان في أصل الفطرة إلا أنهما تلوثتا بأقذار المعصية ، ثم انضم إليهما العلم بالله وبصفاته فنرجو من عميم لطفه أن يقلب النجس طاهرا ههنا والمردود مقبولا . الكلب إذا تعلم وأرسله المالك على اسم الله تعالى صار صيده النجس طاهرا
( ح ) القلب رئيس الأعضاء ، ثم تلك الرياسة ليست للقوة ، فإن العظم أقوى منه ، ولا للعظم ، فإن الفخذ أعظم منه ، ولا للحدة ، فإن الظفر أحد منه ، وإنما تلك الرياسة بسبب العلم ، فدل على أن . العلم أشرف الصفات
( أما الحكايات ) :
( أ ) حكي أن كان معه فقهاء ، وكان فيهم هارون الرشيد أبو يوسف ، فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيته مالا بالليل فأقر الآخذ بذلك في المجلس فاتفق الفقهاء على أنه تقطع يده ، فقال أبو يوسف : لا قطع عليه ، قالوا : لم ؟ قال : لأنه أقر بالأخذ والأخذ لا يوجب القطع بل لا بد من الاعتراف بالسرقة ، فصدقه الكل في قوله ، ثم قالوا للآخذ أسرقتها ؟ قال : نعم ، فأجمعوا كلهم على أنه وجب القطع ، لأنه أقر بالسرقة ، فقال أبو يوسف : لا قطع لأنه وإن فإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل من ذلك . أقر بالسرقة لكن بعد ما وجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ
( ب ) عن كنت عند الشعبي الحجاج فأتي فقيه بيحيى بن يعمر خراسان مع بلخ مكبلا بالحديد فقال له الحجاج : أنت زعمت الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : بلى ، فقال أن الحجاج : لتأتيني بها واضحة بينة من كتاب الله أو لأقطعنك عضوا عضوا ، فقال : آتيك بها واضحة بينة من كتاب الله يا حجاج قال : فتعجبت من جرأته بقوله : يا حجاج ، فقال له : ولا تأتني بهذه الآية ( ندع أبناءنا وأبناءكم ) [آل عمران : 61] فقال : آتيك بها واضحة من كتاب الله وهو قوله : ( ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان ) [الأنعام : 84] إلى قوله : ( وزكريا ويحيى وعيسى ) [الأنعام : 85] فمن كان أبا عيسى وقد ألحق بذرية نوح ؟ قال : فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال : كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله ، حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا .
( ج ) يحكى أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى ليناظروه في [ ص: 179 ] أبي حنيفة ويبكتوه ويشنعوا عليه ، فقال لهم : لا يمكنني مناظرة الجميع ، ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره ، فأشاروا إلى واحد فقال : هذا أعلمكم ؟ قالوا : نعم ، قال : والمناظرة معه كالمناظرة معكم ؟ قالوا : نعم ، قال : والإلزام عليه كالإلزام عليكم ؟ قالوا : نعم ، قال : وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد لزمتكم الحجة ؟ قالوا : نعم ، قال : كيف ؟ قالوا : لأنا رضينا به إماما ، فكان قوله قولا لنا ، قال القراءة خلف الإمام : فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة كانت قراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالإلزام . أبو حنيفة
( د ) هجا واحدا فقال : الفرزدق
لقد ضاع شعري على بابكم كما ضاع در على خالصة
وكانت خالصة معشوقة ، وكانت ظريفة صاحبة أدب ، وكانت هيبة سليمان بن عبد الملك تفوق هيبة المروانيين ، فلما بلغها هذا البيت شق عليها فدخلت على سليمان بن عبد الملك سليمان وشكت ، فأمر الفرزدق سليمان بإشخاص على أفظع الوجوه مكبلا مقيدا ، فلما حضر وما كان به من الرمق إلا مقدار ما يقيمه على الرجل من شدة الهيبة ، فقال له الفرزدق : أنت القائل : سليمان بن عبد الملك
لقد ضاع شعري على بابكم كما ضاع در على خالصة
فقال : ما قلته هكذا ، وإنما غيره علي من أراد بي مكروها ، وإنما قلت : - وخالصة من وراء الستر تسمع - :
لقد ضاء شعري على بابكم كما ضاء در على خالصة
فسري عن خالصة فلم تملك نفسها أن خرجت من الستر فألقت على ما كان عليها من الحلي ، وهي زيادة على ألف ألف درهم ، فأتبعه الفرزدق حاجبه لما خرج من عنده حتى اشترى الحلي من سليمان بن عبد الملك بمائة ألف ورده على خالصة . الفرزدق
( ه ) دعا المنصور يوما فقال أبا حنيفة الربيع - وهو يعاديه - : يا أمير المؤمنين هذا - يعني - يخالف جدك حيث يقول : الاستثناء المنفصل جائز أبا حنيفة ينكره ، فقال وأبو حنيفة : هذا أبو حنيفة الربيع يقول : ليس لك بيعة في رقبة الناس ، فقال : كيف ؟ قال : إنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل بيعتهم ، فضحك المنصور ، وقال : إياك يا ربيع ، فلما خرج فقال وأبا حنيفة الربيع : يا سعيت في دمي ، فقال أبا حنيفة : كنت البادي وأنا المدافع . أبو حنيفة
ويحكى أن فحكم مسلما قتل ذميا عمدا أبو يوسف بقتل المسلم به ، فبلغ زبيدة ذلك فبعثت إلى أبي يوسف فقالت : إياك وأن تقتل المسلم ، وكانت في عناية عظيمة بأمر المسلمين ، فلما حضر أبو يوسف وحضر الفقهاء وجيء بأولياء الذمي والمسلم فقال له الرشيد : احكم بقتله ، فقال : يا أمير المؤمنين هو مذهبي غير أني لست أقتل المسلم به حتى تقوم البينة العادلة أن الذمي يوم قتله المسلم كان ممن يؤدي الجزية فلم يقدروا عليه فبطل دمه .
( ز ) الغضبان على الحجاج بعدما قال لعدوه : تغد عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالحجاج قبل أن يتعشى بك ، فقال له : ما جواب : السلام عليك ؟ فقال : وعليكم السلام ، ثم فطن دخل الحجاج ، وقال : قاتلك الله يا غضبان ، أخذت لنفسك أمانا بردي عليك ، أما والله لولا الوفاء والكرم ، لما شربت الماء البارد بعد ساعتك هذه .
فانظر إلى في هذه الصورة ، فلله در العلم ومن به تردى ، وتعسا للجهل ومن في أوديته تردى . فائدة العلم
( ح ) بلغ قول الشاعر : [ ص: 180 ] عبد الملك بن مروان
ومنا سويد والبطين وقعنب ومنا أمير المؤمنين شبيب
فأمر به فأدخل عليه ، فقال : أنت القائل : ومنا أمير المؤمنين شبيب ؟ فقال : إنما قلت : ومنا أمير المؤمنين شبيب ، بنصب الراء فناديتك واستغثت بك ، فسري عن عبد الملك ، وتخلص الرجل من الهلاك بصنعة يسيرة عملها بعلمه ، وهو أنه حول الضمة فتحة .
( ط ) قال أبو مسلم صاحب الدولة : بلغني أنك كنت في مجلس وقد جرى بين يديك ذكري ، فقلت : اللهم سود وجهه ، واقطع عنقه ، وأسقني من دمه ، فقال : نعم قلته ، ولكن في كرم كذا لما نظرت إلى لسليمان بن كثير الحصرم ، فاستحسن قوله ، وعفا عنه .
( ي ) قال رجل : إني لأبي حنيفة ، وحلفت بصدقة ما تملك أن لا تكلمني أو أكلمها فتحير الفقهاء فيه فقال حلفت لا أكلم امرأتي حتى تكلمني سفيان : من كلم صاحبه حنث .
فقال : اذهب وكلمها ولا حنث عليكما ، فذهب إلى أبو حنيفة سفيان وأخبره بما قال ، فذهب أبو حنيفة سفيان إلى مغضبا ، وقال : تبيح الفروج ! فقال أبي حنيفة : وما ذاك ؟ قال أبو حنيفة سفيان : أعيدوا على السؤال ، فأعادوا وأعاد أبي حنيفة الفتوى ، فقال : من أين قلت ؟ قال : لما شافهته باليمين بعدما حلف كانت مكلمة فسقطت يمينه ، وإن كلمها فلا حنث عليه ولا عليها ؛ لأنه قد كلمها بعد اليمين فسقطت اليمين عنهما ، قال أبو حنيفة سفيان : إنه ليكشف لك من العلم عن شيء كلنا عنه غافل .
( يا ) ، فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه ، فجاء الرجل يشاور دخل اللصوص على رجل فأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثا أن لا يعلم أحدا فقال : أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأحضرهم إياه ، فقال لهم أبا حنيفة : هل تحبون أن يرد الله على هذا متاعه ؟ قالوا : نعم ، قال : فاجمعوا كلا منهم ، وأدخلوهم في دار ثم أخرجوهم واحدا واحدا ، وقولوا : أهذا لصك ؟ فإن كان ليس بلصه قال : لا ، وإن كان لصه فليسكت ، وإذا سكت فاقبضوا عليه ، ففعلوا ما أمرهم به أبو حنيفة ، فرد الله عليه جميع ما سرق منه . أبو حنيفة