أما من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ) فالهاء إلى ماذا يرجع ؟ فيه وجهان : قوله : (
الأول : وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي ، واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم يريد أن من ظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه ، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه ، والرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله : ( إن الله يدخل الذين آمنوا ) والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله فيجب البحث هاهنا عن أمرين :
أحدهما : أنه من الذي كان يظن أن الله تعالى لا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم ؟ والثاني : أنه ما فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع ) ؟ . معنى قوله : (
أما البحث الأول : فذكروا فيه وجوها :
أحدها : كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر فنزلت هذه الآية .
وثانيها : قال مقاتل : نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أن الله لا ينصر محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا . وثالثها : أن حساده وأعداءه كانوا يتوقعون أن لا ينصره الله وأن لا يعليه على أعدائه ، فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك .
وأما البحث الثاني : فاعلم أن في لفظ السبب قولين : أحدهما : أنه الحبل وهؤلاء اختلفوا في السماء ، فمنهم من قال : هو سماء البيت ، ومنهم من قال : هو السماء في الحقيقة ، فقالوا : المعنى من كان يظن أن لن ينصره الله ، ثم يغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق ، فلينظر أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه . وعلى هذا القول اختلفوا في القطع ، فقال بعضهم : سمى الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره ، أو على سبيل الاستهزاء إلا أنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه ، والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ . وهذا قول الكلبي ومقاتل ، وقال رضي الله عنه : يشد الحبل في عنقه وفي سقف البيت ، ثم ليقطع الحبل حتى يختنق ويهلك ، هذا كله إذا حملنا السماء على سقف البيت . وهو قول كثير من المفسرين . وقال آخرون : المراد منه نفس السماء فإنه يمكن حمل الكلام على نفس السماء فهو أولى من حمله على سماء البيت ، لأن ذلك لا يفهم منه إلا مقيدا ، ولأن الغرض ليس الأمر بأن يفعل ذلك ، بل الغرض أن يكون ذلك صارفا له عن الغيظ إلى طاعة الله تعالى ، وإذا كان كذلك فكلما كان المذكور أبعد من الإمكان كان أولى بأن يكون هو المراد ، [ ص: 16 ] ومعلوم أن مد الحبل إلى سماء الدنيا والاختناق به أبعد في الإمكان من مده إلى سقف البيت ، لأن ذلك ممكن . أما الذين قالوا : السبب ليس هو الحبل فقد ذكروا وجهين : ابن عباس
الأول : كأنه قال : فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع بذلك السبب المسافة ، ثم لينظر فإنه يعلم أن مع تحمل المشقة فيما ظنه خاسر الصفقة كأن لم يفعل شيئا ، وهو قول أبي مسلم .
والثاني : كأنه قال : فليطلب سببا يصل به إلى السماء فليقطع نصر الله لنبيه ، ولينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بحيلة ؟ وهل يتهيأ له أن يقطع بذلك نصر الله عن رسوله ؟ فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة ، واعلم أن المقصد على كل هذه الوجوه معلوم فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه ، وهو في معنى قوله : ( فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء ) [ الأنعام : 35 ] مبينا بذلك أنه لا حيلة له في الآيات التي اقترحوها . القول الثاني : أن الهاء في قوله : ( لن ينصره الله ) راجع إلى من في أول الآية لأنه المذكور ، ومن حق الكناية أن ترجع إلى مذكور إذا أمكن ذلك ، ومن قال بذلك حمل النصرة على الرزق . وقال أبو عبيدة : وقف علينا سائل من بني بكر فقال : من ينصرني نصره الله . أي من يعطيني أعطاه الله ، فكأنه قال : من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة ، فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم كما وصفه تعالى في قوله : ( وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ) [ الحج : 11 ] فيبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يغلب التسمية ويجعله مرزوقا .
أما قوله : ( وكذلك أنزلناه آيات بينات ) فمعناه ومثل ذلك الإنزال أنزلنا . القرآن كله آيات بينات
أما قوله : ( وأن الله يهدي من يريد ) فقد احتج أصحابنا به فقالوا : المراد من الهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة ، والأول غير جائز ؛ لأنه تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ، ولأن قوله : ( يهدي من يريد ) دليل على أن ، ووضع الأدلة عند الخصم واجب ، فبقي أن المراد منه خلق المعرفة ، قال الهداية غير واجبة عليه ، بل هي معلقة بمشيئته سبحانه في الاعتذار : هذا يحتمل وجوها : القاضي عبد الجبار
أحدها : يكلف من يريد لأن من كلف أحدا شيئا فقد وصفه له وبينه له .
وثانيها : أن يكون المراد يهدي إلى الجنة والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحا .
وثالثها : أن يكون المراد أن الله تعالى يلطف بمن يريد ممن علم أنه إذا زاده هدى ثبت على إيمانه كقوله تعالى : ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) وهذا الوجه هو الذي أشار الحسن إليه بقوله : إن ، والوجهان الأولان ذكرهما الله يهدي من قبل لا من لم يقبل أبو علي ، والجواب عن الأول : أن الله تعالى ذكر ذلك بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف ، وأما الوجهان الأخيران فمدفوعان لأنهما عندك واجبان على الله تعالى ، وقوله : ( يهدي من يريد ) يقتضي عدم الوجوب .