[ ص: 67 ] ( سورة المؤمنون )
مائة وثمان عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون )
بسم الله الرحمن الرحيم
( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون )
اعلم أنه سبحانه حكم بحصول وقبل الخوض في شرح تلك الصفات لا بد من بحثين: الفلاح لمن كان مستجمعا لصفات سبع،
البحث الأول: أن ( قد ) نقيضة لـ (ما) فـ (قد) تثبت المتوقع، و (لما) تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة، وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه.
البحث الثاني: الفلاح : الظفر بالمراد ، وقيل: البقاء في الخير، وأفلح : دخل في الفلاح ، كأبشر : دخل في البشارة، ويقال: أفلحه : صيره إلى الفلاح، وعليه قراءة "أفلح" على البناء للمفعول، وعنه (أفلحوا) على لغة أكلوني البراغيث ، أو على الإبهام والتفسير. [ ص: 68 ] طلحة بن مصرف
الصفة الأولى: قوله : ( المؤمنون ) وقد تقدم القول في الإيمان في سورة البقرة.
الصفة الثانية: قوله : ( الذين هم في صلاتهم خاشعون ) واختلفوا في الخشوع; فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات، ومنهم من جمع بين الأمرين وهو الأولى. لا بد وأن يحصل له مما يتعلق بالقلب من الأفعال نهاية الخضوع والتذلل للمعبود، ومن التروك أن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سوى التعظيم، ومما يتعلق بالجوارح أن يكون ساكنا مطرقا ناظرا إلى موضع سجوده، ومن التروك أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا، ولكن الخشوع الذي يرى على الإنسان ليس إلا ما يتعلق بالجوارح ، فإن ما يتعلق بالقلب لا يرى، قال فالخاشع في صلاته الحسن وابن سيرين : كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاه، فإن قيل: فهل تقولون: إن ذلك واجب في الصلاة؟ قلنا: إنه عندنا واجب ويدل عليه أمور.
أحدها: قوله تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [محمد: 24] والتدبر لا يتصور بدون الوقوف على المعنى، وكذا قوله تعالى : ( ورتل القرآن ترتيلا ) [ المزمل: 4] معناه قف على عجائبه ومعانيه.
وثانيها: قوله تعالى : ( وأقم الصلاة لذكري ) [طه: 14] وظاهر الأمر للوجوب, والغفلة تضاد الذكر ، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيما للصلاة لذكره .
وثالثها: قوله تعالى : ( ولا تكن من الغافلين ) [الأعراف: 205] وظاهر النهي للتحريم.
ورابعها: قوله : ( حتى تعلموا ما تقولون ) [ النساء: 43 ] تعليل لنهي السكران ، وهو مطرد في الغافل المستغرق المهتم بالدنيا.
وخامسها: قوله عليه السلام : " إنما الخشوع لمن تمسكن وتواضع " وكلمة (إنما) للحصر، وقوله عليه السلام : " " وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء، وقال عليه السلام : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا وما أراد به إلا الغافل، وقال أيضا: " كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل "
وسادسها: قال رحمه الله: المصلي يناجي ربه ، كما ورد به الخبر ، والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة البتة، وبيانه أن الغزالي فقد حصل المقصود منها على بعض الوجوه، وهو كسر الحرص وإغناء الفقير، وكذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى التي هي عدوة الله تعالى . فلا يبعد أن يحصل منه مقصوده مع الغفلة، وكذا الحج أفعال شاقة، وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء سواء كان القلب حاضرا أو لم يكن. أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود، أما الذكر فإنه مناجاة مع الله تعالى . فإما أن يكون المقصود منه كونه مناجاة، أو المقصود مجرد الحروف والأصوات، ولا شك في فساد هذا القسم، فإن تحريك اللسان بالهذيان ليس فيه غرض صحيح، فثبت أن المقصود منه المناجاة، وذلك لا يتحقق إلا إذا كان اللسان معبرا عما في القلب من التضرعات ، فأي سؤال في قوله : ( الإنسان إذا أدى الزكاة حال الغفلة اهدنا الصراط المستقيم ) [ الفاتحة: 6 ] وكان القلب غافلا عنه؟ بل أقول : لو . ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في اليوم ، لم يبر في يمينه ، ولو [ ص: 69 ] جرى على لسانه في ظلمة الليل وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه ، لا يصير بارا في يمينه، ولا يكون كلامه خطابا معه ما لم يكن حاضرا بقلبه، ولو جرت هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر في بياض النهار إلا أن المتكلم غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار، ولم يكن له قصد توجيه الخطاب إليه عند نطقه ، لم يصر بارا في يمينه. ولا شك أن المقصود من القراءة الأذكار والحمد والثناء والتضرع والدعاء , والمخاطب هو الله تعالى ، فإذا كان القلب محجوبا بحجاب الغفلة وكان غافلا عن جلال الله وكبريائه، ثم إن لسانه يتحرك بحكم العادة ، فما أبعد ذلك عن القبول. حلف إنسان، وقال: والله لأشكرن فلانا وأثني عليه وأسأله حاجة
وأما الركوع والسجود فالمقصود منهما التعظيم، ولو جاز أن يكون تعظيما لله تعالى مع أنه غافل عنه، لجاز أن يكون تعظيما للصنم الموضوع بين يديه وهو غافل عنه، ولأنه إذا لم يحصل التعظيم لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس، وليس فيها من المشقة ما يصير لأجله عمادا للدين، وفاصلا بين الكفر والإيمان، ويقدم على الحج والزكاة والجهاد وسائر الطاعات الشاقة، ويجب القتل بسببه على الخصوص، وبالجملة فكل عاقل يقطع بأن مشاهدة الخواص العظيمة ليس أعمالها الظاهرة إلا أن ينضاف إليها مقصود هذه المناجاة، فدلت هذه الاعتبارات على أن الصلاة لا بد فيها من الحضور.
وسابعها: أن الفقهاء اختلفوا فيما ينويه بالسلام عند الجماعة والانفراد، هل ينوي الحضور أو الغيبة والحضور معا. فإذا احتيج إلى التدبر في معنى السلام الذي هو آخر الصلاة فلأن يحتاج إلى التي هي الأشياء المقصودة من الصلاة بالطريق الأولى، واحتج المخالف بأن اشتراط الخضوع والخشوع على خلاف اجتماع الفقهاء ، فلا يلتفت إليه. والجواب من وجوه. التدبر في معنى التكبير والتسبيح
أحدها: أن الحضور عندنا ليس شرطا للإجزاء، بل شرط للقبول، والمراد من الإجزاء أن لا يجب القضاء، والمراد من القبول حكم الثواب.
والفقهاء إنما يبحثون عن حكم الإجزاء لا عن حكم الثواب، وغرضنا في هذا المقام هذا، ومثاله في الشاهد من استعار منك ثوبا ثم رده على الوجه الأحسن، فقد خرج عن العهدة واستحق المدح، ومن رماه إليك على وجه الاستخفاف خرج عن العهدة، ولكنه استحق الذم، كذا من عظم الله تعالى حال أدائه العبادة صار مقيما للفرض مستحقا للثواب، ومن استهان بها صار مقيما للفرض ظاهرا لكنه استحق الذم.
وثانيها: أنا نمنع هذا الإجماع، أما المتكلمون فقد اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع، واحتجوا عليه بأن السجود لله تعالى طاعة وللصنم كفر، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بد من أمر لأجله صار السجود في إحدى الصورتين طاعة، وفي الأخرى معصية، قالوا: وما ذاك إلا القصد والإرادة، والمراد من القصد إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور، فلهذا اتفقوا على أنه لا بد من الحضور، أما الفقهاء فقد ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في تنبيه الغافلين أن تمام القراءة أن يقرأ بغير لحن، وأن يقرأ بالتفكر.
وأما رحمه الله فإنه نقل عن الغزالي أبي طالب المكي عن بشر الحافي أنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته . وعن الحسن رحمه الله: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع . وعن معاذ بن جبل : " من عرف من على يمينه وشماله متعمدا وهو في الصلاة فلا صلاة له ". وروي أيضا مسندا قال عليه السلام : " ". وقال إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها، وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها : أجمعت العلماء على أنه عبد الواحد بن زيد وادعى فيه الإجماع. إذا ثبت هذا فنقول: هب أن الفقهاء بأسرهم حكموا بالجواز، أليس الأصوليون وأهل الورع ضيقوا الأمر فيها، فهلا أخذت بالاحتياط، فإن بعض العلماء اختار [ ص: 70 ] الإمامة، فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل، وإن قرأتها مع الإمام أن يعاتبني الشافعي، فاخترت الإمامة طلبا للخلاص عن هذا الاختلاف، والله أعلم. أبو حنيفة،